على مسرح الجريمة، وقفوا يكتبون فصولاً دامية في دفتر الحياة، سفاحون حولوا الليل إلى كابوس، والأمان إلى وهم، كانوا وجوهاً عادية تتنفس بيننا، حتى أزاحت الجرائم أقنعتهم، وكشفت عن وحوش خلف ملامح البشر.
ينتظرون النهاية على حبل المشنقة، كأن العدالة تهمس لهم: "ما بدأتموه بالعنف، يُختم بصرخة الصمت الأخير"، قصصهم لم تكن مجرد جرائم؛ بل مرايا تعكس أعمق زوايا النفس البشرية حين يُطلق لها العنان للشر.
هنا، حيث العدالة حاضرة وناجزة، يبقى الحبل شاهداً على نهايات رسمها أصحابها بأيديهم، حيث بات حبل المشنقة ينتظر سفاحين التجمع والجيزة والغربية.
سفاح التجمع
في شوارع التجمع الخامس، حيث الهدوء يوشوش الزجاج الأمامي للسيارات الفارهة، وصرير الرياح يراقص الأشجار المزروعة بعناية، ظهر ظل غامض يلقي بوشاح من الرعب على الأحياء الراقية، ليس ظلاً عادياً، بل كيانٌ يتسلل بين التفاصيل الدقيقة، يزرع الخوف في القلوب بلا مقدمة ولا إنذار.
"سفاح التجمع"، هكذا أسماه المواطنين، رجل بلا وجه معروف، ولا صوت مألوف، يترك خلفه ألغازاً لا تنتهي وجدراناً تخفي قصصاً لا تُروى، يُقال إنه يتسلل كالسراب في الظلام، يستهدف العزلة والوحدة، يقتحم حياة ضحاياه بلا استئذان، وكأن الموت يوقع حضوره بشبح بلا اسم.
القصص حوله تتعدد، بين رواياتٍ تتحدث عن عبثه بأقفال النوافذ المغلقة، وأخرى تشير إلى خطواته الصامتة التي تشبه خطوات قطة تائهة، لكن الحقيقة الوحيدة هي أن وجوده قلب موازين الأمور في منطقة لم تكن تعرف من قبل معنى الخوف.
ورغم هذا الغموض، لم تكن الأحاديث عن سفاح التجمع محض خيال، كانت الجريمة واقعاً يُترجم بأسلوب دموي بارع، حيث يترك بصماته وكأنه يوقّع على لوحة سوداوية، تحكي عن انكسار الأرواح قبل الأجساد، حتى وقع في قضبة الأمن معترفًا بجميع جرائم ليصدر ضده حكم بالاعدام.
إقرأ أيضًا:
سر تحول سفاح التجمع من مدرس إنجليزى إلى قاتل محترف
سفاح الجيزة
وعلى جانب أخر، في زوايا الجيزة المكتظة بالحكايات، ووسط ضجيج الشوارع التي لا تنام، تسلّل وحشٌ بملامح بشرية، يحترف التخفي في ثوب الجار الطيب، والأخ الحنون، والصديق الموثوق، رجلٌ، بدا في ظاهره صورةً للنقاء، لكنه في باطنه كان يحفر قبوراً لأرواح من وثقوا به بلا تردد.
"سفاح الجيزة"، كما أطلقت عليه الصحف، لم يكن مجرد قاتلٍ مألوف، كان مؤلفاً ماهراً لسيناريوهات الحياة والموت، ينسج خيوط الجريمة بدهاء، كأنه يكتب روايةً مشوقة لا يُكشف لغزها إلا بعد النهاية، سنواتٌ طويلة قضاها متخفياً خلف وجوه عدة، يتنقل بين الحُب والزيف، بين الضحية والقبر، وكأن المدينة بأكملها خشبة مسرحٍ يؤدي عليها أدواره المتقنة.
قصته تبدأ من خيانة الثقة، وتنتهي عند وأد الأمل، ضحاياه لم يكونوا غرباء؛ كانوا جزءاً من يومياته، من ماضيه وحاضره، بأسلوب أشبه بحيلة درامية، كان يستدرجهم إلى مصيرهم المحتوم، ثم يختفي كأن شيئاً لم يكن، وعندما اكتُشفت جرائمه، كانت المفاجأة أن مقابر أسراره كانت أقرب مما يظن الجميع؛ في منزله، بين جدران صامتة كانت شاهدة على فظاعته.
لكن اللغز الأكبر لم يكن في جرائمه وحدها، بل في هدوئه الذي يتناقض مع بشاعته، كيف لرجلٍ أن يجمع بين دفء الكلمة وبرودة الفعل؟ كيف له أن يُنهي حياة شخص ويواصل حياته كأن شيئاً لم يكن؟ كانت تلك الأسئلة تُحاصر عقول الجميع، لكنها ظلت بلا إجابة شافية.
انكشف القناع وسقط في قبضة الشرطة وحُكم عليه بالاعدام، لكن ظل الرعب الذي زرعه في النفوس سيبقى، الجيزة ستروي حكاية سفاحها لسنوات طويلة، كدرسٍ قاسٍ عن الثقة الممنوحة لمن لا يستحق، وعن الوجوه التي لا تحمل حقيقتها إلا في الظلام.
إقرأ أيضًا:
حكاية أول جريمة مهدت الطريق أمام سفاح الجيزة لارتكاب وقائع القتل المتسلسل
سفاح الغربية
وعلى بٌعد حوالي 120 كيلو متر من القاهرة، على أعتاب قاعة محكمة جنايات المحلة، وقف الزمن شاهداً على قصة غريبة، تتجاوز حدود المنطق وتغوص في أعماق النفس البشرية المتصارعة.
عبد ربه موسى، المعروف إعلامياً بـ"سفاح الغربية"، ليس مجرد قاتل عادي؛ إنه رجل تطارده أشباح ماضيه بقدر ما تطارده ضحاياه في كوابيسه.
أُحيلت أوراقه إلى فضيلة المفتي تمهيداً للنطق بالحكم، حيث يتحدث نادماً، أو ربما هارباً من نفسه، إلى الأبد.
"قتلتُ الطفولة وأنا طفل"، بهذه العبارة يمكن أن يبدأ عبد ربه روايته، حيث كانت جريمته الأولى حين كان في الثامنة من عمره، طفلة رضيعة، لعبة بريئة، ونزعة غامضة داخل الطفل الصغير قادته إلى انتزاع "السكّاتة" من فمها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة.
يقول إن والدته ضربته يومها بشدة، لكن الألم لم يكن ليغسل ذنبه، تلك اللحظة حُفرت في ذاكرته، مثل ندبة عميقة في الروح، وعادت لتؤسس لعلاقة مأساوية مع النساء، علاقة غلبت عليها الكراهية والغضب والانتصار الغاشم.
مرت السنوات، وكبر الطفل الذي قتل الطفولة، أصبح رجلاً يحمل داخله وحشاً نائماً، يستيقظ بين حين وآخر ليقتل بلا سبب، قتل زوجته، التي وصفها بأنها "ست طيبة، كانت حامل مني، وبتحبني"، وفي لحظة غير مفسرة، امتدت يداه لتخنقها، دون إدراكٍ لما يفعله.
"كنت بحبها"، قالها بصوت تخنقه الحسرة، لكن الحب لم يمنعه من أن يسلبها الحياة.
ضحايا عبد ربه موسى خمس نساء، لكل منهن قصة انتهت على يديه، يروي كيف كانت فكرة القتل تسيطر عليه فجأة كإعصار داخلي لا يستطيع مقاومته.
ويصف نفسه وكأنه في "حرب نفسية مع شيء بداخلي"، ذلك الشيء الذي كان يغلبه دائماً، فيجد نفسه أمام جثة، وأمام حياة أخرى سرقها بلا رحمة، لكن بعد كل جريمة، لم يكن الوحش الذي بداخله لينتصر بالكامل، كان الندم يتسلل ببطء، يطارده في أحلامه، يجعل النوم رفاهية لا يملكها، قال بصوت مكسور: "الضحايا بيجولي في الحلم... أنا مش بعرف أنام".
ويحاول عبد ربه تفسير جرائمه، لكنه يضل الطريق بين أزماته النفسية وأشباح الماضي، "أنا قتلت، لكني مش عارف ليه"، قالها بمرارة، نافياً أن تكون والدته سبباً في ما حدث، رغم قسوتها، غير أن الطب النفسي يرى أن طفولة عبد ربه حملت بؤراً صراعية مضطربة، ربما نتيجة صدمات حادة أو قسوة مفرطة، خلقت داخله وحشاً سادياً يرى في النساء عدواً لا بد من القضاء عليه.
في لحظة صدق، قال عبد ربه: "لو الزمن يرجع، كنت هنتحر قبل ما أعمل اللي عملته، فقد حاول إنهاء حياته أكثر من مرة، لكنه لم ينجح، آخر محاولاته كانت عندما وقف على الطريق السريع منتظراً سيارة تصدمه، لكنه تسبب في حادث مأساوي آخر، راح ضحيته سائق بريء.
بينما كان السفاح ينتظر حكم المحكمة، يكرر كلمته الوحيدة: "ندمان"، لكن هل يكفي الندم لغسل خمس أرواح أُزهقت؟ أم أن الندم ليس سوى محاولة يائسة لتبرير ما لا يُبرر؟ .
وقف عبد ربه موسى أمام المحكمة، وربما أمام نفسه، بانتظار حكم القانون، وأبعد من ذلك، بانتظار حكم التاريخ، سفاح الغربية، الذي عاش حياته يحارب وحشاً داخلياً لم يستطع هزيمته، يتركنا أمام سؤال مُعلّق: هل يولد الإنسان قاتلاً؟ أم أن الحياة تصنع منّا ما نحن عليه؟