افتتح الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف – نائبًا عن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، المسابقة العالمية للقرآن الكريم الحادية والثلاثين بمسجد مصر الكبير، وفي كلمته رحب وزير الأوقاف بالحضور جميعًا، مؤكدًا الإعداد للمسابقة على مدى شهور من التحضير والتخطيط، واجتلاب المواهب من مختلف أنحاء العالم؛ لإذكاء روح التنافس على حفظ القرآن الكريم، وفهمه وتلاوته، وترتيله، وبحضور متسابقين ومحكمين من مشاهير أهل القرآن في العالم، ونقل سيادته تحيات رئيس مجلس الوزراء، وخالص دعمه، ودعواته للحضور وللمتسابقين بالنجاح والسداد والتوفيق. 
 
وأكد وزير الأوقاف أن مصر ارتبطت بالقرآن الكريم قبل خلق الخلق، فإن الله تعالى أزلاً وقبل خلق الكون وفي قرآنه العظيم وكلامه القديم شرف مصر بأن ذكرها في كلامه الشريف خمس مرات تصريحًا باسمها، وفوق الأربعين مرة تلميحًا وإشارةً، فضلاً عن أن سورًا كاملة من القرآن الكريم جرت أحداثها كلها على أرض مصر وإن لم يصرح القرآن باسمها أو لم يشر إليها، فسورة يوسف كل أحداثها على أرض مصر، وسورة طه كل أحداثها على أرض مصر، وغالب أحداث سورة الأعراف وسورة القصص وسورة الشعراء وسورة النمل على أرض مصر، وهذا من أعجب ما يمكن، إذ لم يعتن القرآن ببقعة أخرى على وجه الأرض بعد مكة المكرمة كما اعتنى بمصر، بل إن القرآن الكريم ما وصف بالأمان سوى ثلاث بقاع محددة؛ هي مكة المكرمة إذ قال في اليت الحرام: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، ومصر إذ قال فيها: "وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"، وجنات النعيم إذ قال فيها: "إِنَّ ٱلمُتَّقِينَ فِي جَنَّت وَعُيُونٍ * ٱدخُلُوهَا بِسَلَمٍ ءَامِنِينَ"، ونحن في مصر نفتخر إلى يوم القيامة بهذا الشرف العظيم ونحمد الله على ذلك ونرحب بكم ضيوفًا كرامًا على أرض هذا البلد الكريم. 
 
وأكد وزير الأوقاف أن مصر نهضت بخدمة القرآن الكريم حبًا وإيمانًا وتلاوةً وتجويدًا وأداءً وحفظًا وتفسيرًا وعملاً وتطبيقًا وزخرفةً ونقشًا، حتى شاع بين أهل العلم قولهم: إن القرآن الكريم نزل في مكة، وقرئ في مصر، فلا تحصى صور خدمة مصر للقرآن الكريم وعلومه وفنون أدائه والتباري في محبته وخدمته، مضيفًا أن الله –تعالى- وفقها لاجتذاب أهل القرآن عبر التاريخ، فالإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد المشتهر بلقب ورش تلميذ الإمام نافع دفين أرض مصر، والإمام أبو محمد القاسم بن فِيْرُّه -الشاطبيِّ- انتهت إليه رياسة الإقراء بمصر ومات ودفن بها، وشيخ الإسلام زكريا مدار أسانيد القراء، والإمام المتولي خاتمة المحققين في هذه العلوم، ومحمد خلف الحسيني، وعلي محمد الضباع، وعامر السيد عثمان، ورزق خليل حبة، وعبد الحكيم عبد اللطيف، وعشرات ومئات سواهم. 
 
وأضاف وزير الأوقاف أن شموس دولة التلاوة سطعت بـ الشيخ محمد رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ محمود علي البنا، والشيوخ علي محمود، وعبد الفتاح الشعشاعي، وكامل يوسف البهتيمي، وأبو العينين شعيشع، ومنصور شامي الدمنهوري، وعبد العظيم زاهر، ومحمد فريد السنديوني، ومحمد محمود الطبلاوي، ومحمود أحمد عبد الحكم، وراغب مصطفى غلوش، ومحمد الشحات أنور، وغيرهم مئات؛ مشيرًا إلى أن الأستاذ محمود السعدني ألف كتابه: ألحان السماء، وألف الأستاذ أسامة عبد الرحمن: مشاهير قراء القرآن في مصر، وألف عبد الحميد دشو كتاب: معجم كبار القراء في مصر، وألف أبو طالب محمود كتابه: القرآن بصوت مصر: معجم القراء المصريين. 
 
وأضاف وزير الأوقاف أنه برز العمالقة من المنشدين والمبتهلين بجوار أساطين القراء وعباقرة التلاوة، كالشيخ علي محمود، والشيح طه الفشني، والشيخ نصر الدين طوبار، والشيخ سيد النقشبندي، ومحمد الطوخي وغالبهم جمعوا بين تلاوة القرآن الكريم وروائع الإنشاد والمديح والابتهال بحب الله ورسوله، واصفا إياهم بالشموس الساطعة في سماء التلاوة، في حسن الموهبة، وبديع الصوت، وجميل الأداء المبهر السماوي الروحاني المبهر؛ معبرًا عن المدرسة المصرية في القراءة والإنشاد بأنها المدرسة المصرية الأصيلة والعريقة في فنون تلاوة القرآن الكريم، التي صدحت بالقرآن، فملأت أذن الدنيا جمالاً وذوقًا وفرحًا وطربًا وأنسًا بالله وبرسوله.
 
وأكد وزير الأوقاف أن المدرسة المصرية في التلاوة والإنشاد تاريخ عريق، وحاضر مشرف، ومستقبل مشرق وواعد، مضيفًا إننا في هذا اليوم نرى صورة من صور تألق المدرسة المصرية في خدمة القرآن الكريم، تتمثل في إعلان وزارة الأوقاف عن مشروع برنامج عودة الكتاتيب، الذي بدأ من قرية كفر الشيخ شحاتة في مركز تلا بمحافظة المنوفية شمال مصر، إذ تم افتتاح كتاب كبير وحافل هناك، مع مخبز لخدمة أهالي القرية الكريمة، وأضاف سيادته: دعوت جميع القرى والمدن في مصر إلى تبني هذه المبادرة والانخراط فيها ومحاكاتها، لأن الكتاتيب ليست مجرد أماكن لتحفيظ القرآن الكريم، بل هي صروح تعليمية وتربوية تزرع القيم النبيلة وتحفظ الهوية وتبني الإنسان المصري على الأخلاق الرفيعة، والفهم العميق لمعاني الدين، والانتماء الصادق للوطن، وإحياء اللغة العربية السليمة في نفوس الأجيال الجديدة، باعتبارها لغة القرآن الكريم بما يحمي الأجيال القادمة من الإرهاب والإلحاد معا. 
 
وأردف الوزير إن وزارة الأوقاف تخدم كتاب الله بإقامة سلسلة من المسابقات، تأتي على رأسها مسابقة اليوم: المسابقة العالمية الحادية والثلاثون للقرآن الكريم، التي تحظى باهتمام الدولة المصرية ورعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث تستقبل مصر ضيوفها من مختلف دول العالم، وتتيح لهم جو المنافسة والتباري بإبراز مواهبهم في حفظ القرآن الكريم وفهمه وخدمته، ما نوجه به رسالة لملياري مسلم على وجه الأرض ثم للثمانية مليار إنسان على وجه الأرض: إن مصر قبلة علوم الإسلام، ورافعة راية العروبة، ومأوى علوم الشريعة، وبلد الأزهر الشريف، ومضرب المثل في السماحة ونداء السلام، وما قام بلد في الدنيا بخدمة الإسلام والقرآن كما قامت مصر، والتاريخ لا ينكر، والواقع لا يجحد، مؤكدًا أن المسابقة اليوم رسالة تقدير واحترام لكل أهل القرآن ولكل حافظ له ومتعلق به على وجه الأرض. 
 
وتابع وزير الأوقاف إنه من مصر تفجرت ينابيع القرآن عبر التاريخ ولن تنضب، من هنا سطعت أنواره ولن تخبو، من هنا تدفقت علوم الشريعة وستظل، من هنا صدحت الأصوات العبقرية والحناجر الذهبية وستظل تصدح وتولد وتشرق. 
 
وأشار الدكتور أسامة الأزهري إلى رمزية المكان الذي تقام عليه المسابقة بقوله: إنه مركز مصر الثقافي الإسلامي، ومسجد مصر الكبير، ودار القرآن الفريدة التي لا مثيل لها، مضيفًا إنه في هذا الصرح العالمي تنطلق مسابقة اليوم، وتنطلق في القريب عشرات ومئات من الفعاليات التي تملأ الدنيا نورًا، وتحقق رسالة مركز مصر الثقافي، وتنير الدنيا بعلوم الأزهر الشريف ومناهجه الرصينة المنيرة، مضيفًا إننا سنقتبس من القرآن قبس الحكمة الذي به نكتشف المواهب، وبه سنولد الأجيال الجديدة من عباقرة التلاوة والإنشاد، وسندرب الأئمة، وسنصنع العلماء، وسنحافظ على وطننا ونحميه وننميه، وسنمد يدنا إلى الأوطان والبلدان الشقيقة بالخير والدعم والكرم والعطاء والنور، وسننطلق إلى العالم بالقيم الرفيعة، والأخلاق القويمة، وسنبني الجسور بيننا وبين الثقافات والحضارات والفلسفات المختلفة، وسنعين العالم على حماية البيئة، وحفظ الطفولة، وتحقيق الاستدامة، وتعظيم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، وصناعة الحضارة، مضيفًا سنواجه تحدياتنا وأزماتنا، ونضخ الأمل في النفوس، ونزيح عنها كل ركام الحيرة والحزن والتشكك، سنعبر ببلادنا إلى بر الأمان، ونشارك البشرية في مغالبة همومها، ونسعى إلى الله ونسير إليه على بصيرة، ونحمل مواريث النبوة؛ فهذه هي مصر إذا قررت أن تعمل وأن تنطلق. 
 
واختتم الوزير كلمته بتأكيد موقف مصر الثابت المحق الرصين الشجاع، أنه لا حل لأزمات المنطقة ولا هدوء ولا أمان إلا برد الحق إلى أهله، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشريف.
 
من جانبه قال الدكتور محمد الضوينى وكيل الأزهر، إن القرآن الكريم، هو منبع الخيرات، ومصدر البركات، حوله نجتمع، وبأحكامه نلتزم، ولأوامره نخضع، وبتوجيهه نعمل، موضحا أن هذا الكتاب الكريم هو الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يشبع منه العلماء، ولا تزيع به الأهواء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من حكم به عدَلَ، وَمَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَن قَالَ به صدَقَ، وَمَن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
 
وأوضح وكيل الأزهر، أننا نعيش في زمان يجب فيه أن نلتف حول القرآن، لا بتلاوة آياته وضبط كلماته فحسب، وإنَّما لفهم مقاصده وغاياته، التي تربو على العد والحصر والإحاطة، مؤكدا أنَّ القرآن الكريم وضع الحلول الناجعة لمشكلات واقعنا المعاصر، ووصف الأدوية الشافية لأدواء النفوس والعقول، كما أن الله تعالى أعلن أنه أحد الأسباب القوية في تحقيق وحدةِ الأمَّةِ،وحذِّرنا فيه من الفرقة والاختلاف والأسباب المؤدية إليهما، والنتائج المترتبة عليهما.
 
ولفت وكيل الأزهر، إلى أن النزاع بين الشعوب والأمم وطوائفها، لا يقتصر فقط على النزاع العسكري، بل إنَّ من النزاع أن تتغير أحاسيس شعوب الأمة فلا يشعر بعضها بآلام بعض، أو أن يطمئنَّ بعضها بأمنه وكفايته دون أن يرى غيره جائعا محاصرا مهددًا، قائلا "لا أدري لماذا يُصِرُّ البعض على الفرقة والاختلاف، ولا نفطن أفرادا وشعوبا إلى أنَّ مَا نَكَرَهُهُ في الجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا نحبه في الفُرقَةِ؛ ففي الجَمَاعَةِ رَحْمَةٌ وَفِي الفُرقَةِ عَذابٌ".
 
وأضاف الدكتور الضويني، أنه إذا كان العالم يعاني من لوثة أخلاقية تسعى لإصابة المجتمع في نواته الصلبة، وتحاول أن تستبدل بالأسرة الشرعية وبالعفة شذودًا يعارض ناموس الطبيعة والفطرة، يسمونه زورًا مثلية، أو حرِّيَّةً؛ فإنَّ القرآن يقول لهم: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}، وإذا كان العالم يعاني من حروب ظالمة طائشة تصيب بلاد السلام، التي لا ناقة لها في الحرب ولا جمل ؛ فإنَّ القرآنَ يَقُولُ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
 
وأكد وكيل الأزهر أن القرآن الكريم هو العمل الدائم الذي يتصل ثوابُه أَبدَ الدَّهْرِ حَتَّى يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، وهو المعجزة الخالدة الباقيةُ الَّتِي تَعْصِمُ الأمة من الغواية، وتصون أبناءها من العماية، وبقدر تَمَسُّكِ الأُمَّةِ به تبقى عزيزة، موضحا أن تواتر القرآن جاء ليذكرنا بأنَّنا أمةٌ لها تاريخ، وأنه مهما حاول المغرضون تزييف تاريخنا أو تحريف أفكارنا فإن هويتنا راسخة كالجبال الشم، وإن فصاحة ألفاظه وعذوبة كلماته لتذكرنا بما يجب أن نتحلى به من لسان مستقيم، وعربية عذبة، وإنَّ آياته لتذكرنا بالأخلاق التي يجب أن نكون عليها، وإنَّ أوامره لتذكرنا بأنَّنا أمة العلم والعمل، وأنَّنا أخرجنا للنَّاسِ نحمل الخير لهم عقيدة وشريعة وسلوكًا.
 
وبيّن وكيل الأزهر أنه إذا كان الواقع يشهد تشويها متعمدا لكل جميل، ظهرت آثاره المُرة في اللسان العربي عُجمة وغُربة، وفي السلوك والأخلاق انحرافا واعوجاجا، وفي جغرافية الأرض استهدافًا وقتلا من عصابة مجرمة آثمة، يأبى التاريخ أن يقبلها، وتأبى الأرض أن تستقر تحت أقدامها؛ 
 
في ظل هذه الأجواء المشحونة بالآلام يأتى القرآن الكريم كتابا للقيم الإيمانية والأخلاقية والإنسانية، ومنبعا للآداب والكمالات، وفيضا للجمال والحسن والبهاء، وشارحا لأسباب العز والنصر والسيادة؛ فعسى أن تفتح لنا هذه المسابقة أبوابا من التعلق بكتاب الله؛ ليكون فينا كما أراد الله حبلا متينا تعتصم به الأمة من الفرقة والشتات، وصراطا مستقيما لا تعوج فيه الخطوات.
 
وهنأ وكيل الأزهر حفظة القرآن وأهله بما معهم من أنوار الوحي، وبما هم فيه من صلة طيبة بمن يتلون كلامه، مبشرا إياهم بمنزلتهم من الله؛ فهم أَهْلُ الله وخاصته، كما هنأ أهليهم بما لهم عند الله من مكانة؛ معربا عن خالص تقديره لوزارة الأوقاف: قيادة ولجانا علمية وفنية على هذا المجهود الراقي، في تنظيم النسخة الحادية والثلاثين للمسابقة الدولية للقرآن الكريم، خدمةً لكتاب الله، ولأهل القرآن، ولمصرنا الغالية.
 
من جانبه قال الدكتور نظير محمد عياد ،مفتى الجمهورية، إن معجزة القرآن الخالدة ظلت على مر العصور تلهم البشر وتوجههم إلى الحق، ولا ينكر أحد تلك الآثار العظيمة  للقرآن الكريم التي  تتضافر وتشكل شخصية المسلم، وتكمل بناءه الروحي والنفسي، والعملي والعقلي، برسائله الخالدة التي تعبر به حدود الزمان والمكان، وترمم بناء الإنسان فتنتظم بالقرآن علاقة المرء بالله وبنفسه وبالمجتمع. 
 
وإن الحضارة الإسلامية قامت على أسس ملهمة من القرآن الكريم في مجالات الحياة كافة، مما جعل المسلمين روادا للعلم والمعرفة ومثالا للأخلاق السامية، وكان القرآن في هذا المضمار مصدر الهداية والتوجيه، قال تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾. [الإسراء: 9]، كما كان سبيلا لتعزيز العلم والمعرفة، بدعوته الدائبة إلى التفكر والبحث، قال الله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق﴾.[العنكبوت: 20]، وقد نتج عن هذا إحياء العلم والثقافة حتى أصبحت العلوم الإسلامية والعلماء المسلمون مرجعا للعالم أجمع، وتأسست علوم متعددة في ظل القرآن كالفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، وكان القرآن ملهم الخطوة الأولى لتطوير العلوم الأخرى كالفلك، والطب، والهندسة، كما ألهمت القيم القرآنية المسلمين الإبداع العلمي والفني؛ مما أدى إلى ظهور علماء مثل ابن سينا في الطب، والبيروني في الفلك، والخوارزمي في الرياضيات، وظهرت العمارة الإسلامية المزينة بالآيات القرآنية دليلا على ارتباط الإبداع الفني بروح الإسلام، وقد أسهمت كل هذه القيم في بناء مجتمع حضاري متكامل ومزدهر. 
 
 لقد اهتم القرآن الكريم ببناء الفرد والمجتمع منذ أن نزل الوحي على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقدم دستورا متكاملا للإنسان عامة، وللمسلم على وجه الخصوص؛ وإن كان القرآن يهذب النفس البشرية بخطابه الذي يغرس الطمأنينة في النفوس القلقة، ويمنح الأمل في أوقات الشدة، ويجعل الإنسان يعيد النظر في أهدافه وسلوكه، ويعلمه قيم الإيمان، والتوكل، والصبر، ويدعوه إلى التحلي بالأخلاق الحسنة كالصدق، والأمانة، والرحمة، والتسامح، فإنه على الجانب الأعم يقدم نظاما شاملا لبناء مجتمع متماسك يسوده العدل والمساواة، فترى العدالة الاجتماعية ناجزة في الأوامر الإلهية؛ لتحمي حقوق الفقراء والمحتاجين، كما تراها جلية في المناداة بالتسامح والتعارف بين الشعوب، وقبول الآخر والتعايش بين الناس رغم اختلافاتهم، ولا يقل هذا الجانب اهتماما عن وضع القرآن القواعد التشريعية التي تنظم العلاقات الأسرية، والتجارية، والسياسية، وأعلن صراحة في أكثر من موضع أن تبني تلك القواعد يسهم في بناء مجتمعات مزدهرة على مر التاريخ، وقد اتسمت المبادئ السامية القرآنية الأصيلة ببناء محكم في تفاصيله وتراكيبه، فلا نقص يعتريه، ولا تبديل لكلماته، ولا تغيير في ألفاظه ومدلولاته، ومن ثم انتظمت حياة الناس بتوجيهاته كما انتظمت بلاغته واتقانه وحسنه وكماله.
 
وتابع :إن الحدث الكبير الذي نعيشه اليوم يأتي في إطارين عظيمين: الأول: التأكيد على قيمة القرآن الكريم وعالميته في بناء الإنسان، باعتباره أهم الركائز والأسس في البناء الحضاري للإنسان المعاصر، وأنه سيظل يقدم له ويعطيه من كنوزه ومعارفه الكثير والكثير مهما طال الزمن أو قصر. 
 
الثاني: القيام بالدور الوطني الكبير المنوط بوزارة الأوقاف المصرية، والتي من خلاله تحرص على تشجيع الأسرة المسلمة لتحفيز أبنائها وتوجيههم نحو حفظ القرآن الكريم وقراءته وتدبره بشكل وسطي ومعتدل، بالإضافة إلى تعزيز القدوات الصالحة في المجتمع المصري من خلال النماذج التي سيتم تكريمها والاحتفاء بها، وكذلك إتاحة الفرصة المناسبة لاكتشاف المواهب النابغة في حفظ القرآن الكريم وتدبره، واحتضانهم وتأهيلهم حتى يكونوا سفراء القرآن الكريم بعد ذلك في الشرق والغرب. 
 
وواصل:" ويجدر بي في هذا أن أثمن المبادرة العظيمة التي أطلقها وأعلن عنها وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري ، والتي تعنى بعودة الكتاتيب من جديد في القرى والأرياف، على يد محفظين متميزين، مشهود لهم بجودة التحفيظ والتعليم، وإتقان القراءة والترتيل، ولا شك أن هذه المبادرة بمقاصدها التي تم الإعلان عنها، ومنهاجيتها المتفردة في التطبيق على أرض الواقع ستكون  خطوة مباركة نحو تعزيز الانتماء الوطني والهوية عند النشء وذويهم، كما أنها ستحصنهم من مخاطر الاستقطاب الفكري المتطرف، بالإضافة إلى أنها ستكون بمثابة المدرسة الحاضنة لكنوز مصرية قرآنية مستقبلية، تحافظ على مكانة مصر في قلوب المسلمين في العالم بحسن القراءة والإتقان لمعاني القرآن الكريم.  
 
وأضاف: إن المرء يشعر بعظيم الافتخار والاعتزاز وهو يشاهد منجزات الدولة المصرية التنموية والحضارية الشاملة التي حققتها في كل الميادين، وفي مقدمتها خدمة الإسلام والمسلمين، وذلك عندما يجلس في هذا الصرح الديني والإنساني الكبير "مركز مصر الثقافي الإسلامي" (مسجد مصر)، ويرى ما فيه من جهود عظيمة تهدف إلى نشر الوسطية والاعتدال في ربوع العالم، بعقول أزهرية خالصة، تربت في أحضان الأزهر الشريف، متمسكة بمنهاجيته الخالدة في فهم الإسلام وتصحيح صورته بين العالمين، وتعزيز قيمه الدينية والإنسانية والوطنية في جميع المحافل الدولية والإقليمية. 
 
وتابع:" إن "دار القرآن الكريم بمسجد مصر" – بفضل الله تعالى – ثم بفضل الرعاية الصادقة من الدولة المصرية، وجهود المخلصين المبذولة، ستكون منارة قرآنية عالمية تهتدي بها الشعوب والأمم في رعاية القرآن الكريم، وتطبيق مبادئه العظيمة في جميع المناحي الدينية والدنيوية. "
 
وفى ختام حديثه قال: أبنائي أهل القرآن، حفاظ كتاب الله: نفتخر بكم وبما تحملونه من نور القرآن في صدوركم، وندعو الله أن يجعلكم من العاملين بما حفظتم، ومن المرفوعين بالقرآن في الدنيا والآخرة، أنتم أهل الله وخاصته على نحو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال:  «إن لله أهلين من الناس» قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته». [المستدرك، رقم 2046].لذا أوصيكم بوصايا خمس: 
 
الأولى: تخلقوا بأخلاق القرآن الكريم؛ وتحلوا بصفاته المباركة، وتزينوا بأنواره المشرقة، في أقوالكم وأفعالكم؛ حتى تصبحوا متفردين في المجتمع، يراكم الناس قرآنا يمشي على الأرض، يهتدون بهديكم القرآني المبارك، ويقتدون بكم نحو المعالي والمكارم. 
الثانية: أوصيكم بضرورة الاستدامة والمواظبة على تعلم علوم الشريعة الإسلامية، والتفقه في مسائلها، والغوص في معانيها، والتعرف على أسرارها ومقاصدها ومكارمها، وفق المنهج الأزهري الرشيد السديد الخالد؛ حتى تكونوا أداة رئيسة وفاعلة تعتمد عليها الأوطان في تعزيز الأمن والاستقرار في المجتمع. 
 
الثالثة: كونوا حريصين على الانتماء إلى أوطانكم، محبين لها الخير والرفاه، محافظين على هويتكم الدينية والوطنية، مشاركين بفاعلية كبيرة في البناء التنموي والحضاري في كل الميادين، متحصنين بالحصن المنيع ضد أي فكر منحرف يريد أن يستقطبكم نحو الغلو والتطرف، الذي يؤدي بالمجتمعات والأوطان إلى الدمار وزعزعة الاستقرار.
 
الرابعة: لتكن همتكم عالية، وعزيمتكم قوية، وإرادتكم فاعلة نحو نشر الصورة الصحيحة للإسلام في ربوع العالم، مؤكدين للعالم أجمع أن الإسلام هو دين الخير والرحمة والتسامح والتعايش، وأن الصورة المشوهة التي تحاول أن تلحقها الجماعات المتطرفة بالإسلام ليست حقيقية، وهي مثل الزبد الذي لا محالة سيذهب جفاء ولن يمكث في الأرض. 
 
الخامسة: أوصيكم خيرا بأهليكم وآبائكم وأمهاتكم وبكل من له فضل أو حق عليكم، فمن "لا يشكر الناس من لا يشكر الله، ومن لا يشكر في القليل لا يشكر في الكثير" [الأمثال في الحديث النبوي، أبو الشيخ الأصبهاني، رقم 111]، وقد أوصانا الإسلام بالاعتراف بالجميل لأهله، وحفظ المقامات  الرفيعة، وحثنا على أن لا ينقطع برنا ووصلنا بأهلينا ومن له حق علينا. 
 
فحافظوا على هذه الوصايا الخمس، وأبشروا بشفاعة القرآن الكريم لكم يوم القيامة، على نحو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني  فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه "، قال: " فيشفعان ". [مسند أحمد، رقم 6626]."