الحضارة المصرية القديمة لم تكشف عن كل أسرارها بعد، كل يوم هناك دراسات وأبحاث تكشف جوانب من تلك الحضارة العظيمة، ومن ذلك ما يتعلق بالدفن، فلم تقتصر دفناتهم على الإنسان فقط، بل كان للحيوان نصيب، ومن ذلك دفن الفيلة، فلماذا كان يتم ذلك؟
يقول كتاب "العبادة الحيوانية بين الدفن والرمزية فى مصر وبلاد الشام والعراق.. فى عصور ما قبل التاريخ" لـ زينب عبد التواب رياض:
دفنات الفِيَلة
كانت البيئة المصرية من البيئات الملائمة لتواجد الفِيَلة Elephas aficanus منذ أقدم العصور، وقد عُثر على بقاياها العظمية في الفيوم منذ العصر الحجري الحديث، حيث مناطق المستنقعات والحشائش ومناطق شبه السافانا، إلا أنَّ ضغط ظروف الجفاف وعمليات الصيد أدَّى إلى نزوح الفِيَلة جنوبًا ضمن مجموعةٍ أخرى من الحيوانات التي تحتاج إلى كميات ضخمة من الطعام.
ولقد عثرت كاتون طومسون عام ١٩٣٤م في الموقع K بالفيوم على هيكلٍ عظمي لفيل، كانت قد اكتشفته على شاطئ بحيرة الفيوم، وبدراسته ثبَت وجودُ واحدة من رءوس السهام المقعَّرة التي التصقت بعظامه، ولم تقتنع كاتون طومسون بفكرة أن تكون مثل هذه الأداة الحجرية البسيطة هي التي أودت بحياة هذا الفيل الضخم، وإنما ترى أنه قد استُخدم سمٌّ في تيسير مهمة القتل.
ولم تكن دفنات الفيلة بمثلِ كثرةِ ما عُثر عليه من دفنات لحيواناتٍ أخرى؛ ففي هيراكونبوليس عُثر في المقبرة رقم ٢ بالجبَّانة HK6 على دفنةٍ لفيل، تُؤرَّخ بعصر نقادة II، وذلك ضمن مجموعة من الدفنات الحيوانية التي عُثر عليها حول مقبرةٍ منحوتة في الصخر في الجزء الغربي من الجبَّانة. وقد تمكَّن الباحثون من وضعِ صورةٍ تشريحية له الشكل رقم ٧-٦١، بينما في المقبرة رقم ١٤ عُثر على دفنةٍ أخرى لفيل صغير، تُؤرَّخ بنقادة II ab-Ic، عُثر معه على بقايا عظمية لحيواناتٍ أخرى وعلى سبعة من الكلاب، هذا بخلاف الدفنة رقم ٢٤ التي اشتملت على بقايا عظمية لفيلٍ آخر صغير — ذكر — ربما كان قد دُفن معاصرًا وملحقًا بالدفنة السابقة رقم ١٤ للفيل الصغير الآنف الذِّكر.
وهي قد تكون دفنةً فرعية ملحقة بالمقبرة رقم ٢٣ التي عُثر إلى الجنوب منها على أسنانِ فيلٍ اعتقدت Adams أنها ربما بقايا دفنة لفيلٍ تحمل سِمة الثراء الدال عليه مدى الاهتمام بها.
وهكذا يتبيَّن وجودُ تداخُلٍ وخلطٍ ما بين دفنتي الفيل في كلٍّ من المقبرة رقم ١٤، والمقبرة رقم ٢٤؛ إذ عُثر في كلتيهما على بقايا أجزاء عظمية، وأسنان وأجزاء من الجمجمة، ولا يزال الجدل قائمًا حول تلك الدفنات، وما إذا كانت دفنة واحدة لفيل واحد قُسمت أجزاؤه على مقبرتين أم إنهما دفنتان لاثنين من الفِيَلة، لم يُعثر على كامل هياكلهما العظمية. الشكل رقم ٧-٦٢، هذا بخلافِ دفنةٍ لفيلٍ تم اكتشافه حديثًا، وجاء شبه مكتمل. الشكل رقم ٧-٦٣.
ولقد أظهرت البقايا العظمية مدى ضخامة هذا الفيل على الرغم من فقدان بعض الأجزاء العظمية، إلا أنَّ عظام الجمجمة والأسنان والعنق وغير ذلك من الأجزاء العظمية كانت قد أظهرت شبهَ اكتمال للهيكل العظمي الشكل رقم ٧-٦٤، وبالتالي وضع تخيُّل للحجم التقريبي للفيل الذي يبدو أنه كان قد توفِّي في مرحلة عمرية تبلغ حوالي ١٠-١١ عامًا، وقد وضَح ذلك من خلال عدد الضروس الطاحنة التي جاءت على كل جانب من جانبَي الفك السفلي والعلوي له، والتي بلغت ستة على كل جانب. الشكل رقم ٧-٦٥.
ولا شكَّ أنَّ الاهتمام بدفن مثل هذا الفيل الضخم في هذا العصر بل وتزويده بالطعام على غِرار الدفنات الآدمية الشكل رقم ٧-٦٦، يُعَد من الأمور اللافتة للنظر، لا سيما وأنَّ الأمر كان يتطلَّب مزيدًا من الجهد للإتيان بفيلٍ بمثل هذه الضخامة، ومكابدة المشاقِّ في دفنه، مع العلم أنَّ وزن مثل هذا الفيل كان يزيد على ١٠٠٠كجم، بينما طوله يزيد على ٢٫٥٠م، فما الداعي لتحمُّل كلِّ ذلك، لا سيما وأنَّ الأفيال كان يُؤتَى بها من أقصى الجنوب.
وباستكمال أعمال الكشف الأثري بالدفنة، تبيَّن وجودُ جدران للمقبرة رقم ٢٤، وبنهاية حفرة الدفن ثبَت وجودُ كميات ضخمة من الأخشاب، بدَت متناثرة، اعتُقِد في البداية أنها تمثِّل سقفًا أو غطاءً للمقبرة من الأخشاب، ولكن بعد إزاحته من مكانه تبيَّن أنه ليس بسقف، وإنما هو بقايا من أعمدةٍ خشبيةٍ ضخمة — ما زالت في موقعها بالحفرة — ومن دراسة تلك البقايا الخشبية والأعمدة التي عُثر عليها بالمقبرة التي حوَت دفنة الفيل، تبيَّن أنها كانت بمثابة بناء خشبي، كان قد جُهز للفيل، كمكان له ظل فيه حتى الموت، ويتأكَّد ذلك من خلال العثور على الأعمدة الخشبية الأربعة التي كانت تحيط بالدفنة، والتي وُزِّعت على أبعادٍ تصل لحوالي مترين (من الشمال إلى الجنوب) و٥ أمتار (من الشرق إلى الغرب)، هذا بخلاف رءوس السهام الرائعة الصُّنع التي عُثر عليها في المقبرة والتي يبدو أنها كانت قد استُخدمت لقتل الفيل.
وبالرجوع إلى دفنات الفِيَلة التي جاءت بالجبَّانة، فيرى البعض أنه بعد أن تم العثور على هاتين الدفنتين، فلا يُستبعد أن يُعثر على دفنةٍ لفيل ثالث في مستقبل أعمال الكشف بالجبَّانة، إلا أنَّ الثابت حتى الآن هو هاتان الدفنتان رقم ١٤ ورقم ٢٤.
وهكذا ألقت الاكتشافاتُ الحديثة في جبَّانة هيراكونبوليس، الضوءَ على وجود العديد من الدفنات الحيوانية التي عُثر عليها بالجبَّانة، والتي دلَّت على الثراء الذي كان عليه هؤلاء الحكام الأوائل، والذي كانت عليه هذه الجبَّانة.
التكفين واتجاه الدفن
تبيَّن العثورُ على طبقة من الكتان الرائع الذي كان يغطي كلًّا من أعلى وأسفل عظام الفيل وكأنه يرتديه، وإن كان من المستبعَد أن يكون هذا نوعًا من التحنيط؛ فهو فقط نوعٌ من الاهتمام بالفيل، تمثَّل في تغطيته بهذا القماش الفاخر. أما عن اتجاه الدفن، فلم يتضح بالدفنة رقم ١٤ التزامٌ باتجاه معيَّن في الدفن، أما الدفنة رقم ٢٤ فقد كان الفيل راقدًا على جانبه الأيسر، وجهه إلى الشرق ورأسه في اتجاه الغرب.
المتاع الجنائزي
عُثر في الدفنة رقم ٢٤ على بعض المتاع الجنائزي الذي تمثَّل في بعضٍ من أدوات الزينة، والملاخيت الأخضر والمُغْرة الحمراء، ومقمعة من الديوريت وقدور من الألباستر، وبعض من الخرزات، مما أعطى للدفنة نوعًا من الثراء، فلا شكَّ أنها دفنة فخرية، كان صاحبها على قدْرٍ من الثراء والرقي الاجتماعي، فأضفى على تلك الدفنة الحيوانية نفس هذا الثراء والرقي.
ولا شكَّ أنَّ العثور على مثلِ هذه الأشياء في تلك الدفنة الحيوانية، ليُعَد من الأمور الغريبة، فما الداعي لوضعِ مثل هذه الأشياء مع الفيل، فهل له أن ينتفع بمثل هذا المتاع الجنائزي في الحياة الأخرى كما هو الأمر مع الإنسان؟
هذا، ولقد عُثر على بقايا أجزاء عظمية لثور مستأنَس كانت قد جُمعت أجزاؤه بطول الجانب الشرقي من المقبرة، وربما كان الغرض منها أن تعبِّر عن نوع من القربان الغذائي المقدَّم لهذا الفيل! هذا، ولم يُعثر بعدُ على بقايا آدمية في المقبرة، وإن كانت الدَّارسة تعتقد أن يكون هذا مجرد خلطٍ حدَث بين دفنة الفيل ودفنة البقرة.
الغرض من الدفن
وضح تأثير الفيل في المفاهيم الفكرية للمصري القديم، من خلالِ ما عُثر عليه من دفناتٍ له في جبَّانة هيراكونبوليس، فلا شكَّ أنَّ كلًّا مما سبق يؤكِّد على أنَّ الفيل كان له أهمية ومكانة كبرى في تلك الفترة، ربما لاعتباره من الحيوانات القوية المرتبطة بالسيطرة وبقوة الحاكم. إلا أنَّ ذلك لا ينفي اختلافَ الآراء حول تفسير الغرض من دفنات الفيَلة التي عُثر عليها بالجبَّانة.
فلم يكن لوجود الفيل دورٌ إلهي أو عقائديٌّ في فكر المصري القديم، توضِّحه دلائل عادات الدفن المتكررة كغيره من الحيوانات الأخرى، ولذا فتفسير وجود دفنات الفيَلة إنما يتبدى من خلال ربطها بطبيعة المستوى الاجتماعي السائد في ذلك العصر، لا سيما وأنه لوحظ بالفعل قدْرٌ من الثراء بدت عليه دفنة الفيل رقم ٢٤ الآنفة الذكر.
هذا، وليس من المستبعَد أنه كما اقترنت أشهر أسماء الملوك الأوائل برموزٍ حيوانيةٍ مثل اسم «نعرمر» و«العقرب». أن يكون الفيل أيضًا له مثل تلك الرمزية، وأن يكون له اقترانه باسم الملك، كرمز لقوَّته مثل الثور مثلًا؛ إذ كان قد ظهر في كثير من الأحيان، متقمصًا هيئةَ الملك وممثلًا له، فكل الملوك الأوائل بمصر كانت لهم أسماء حيوانية عبَّرت عن قوَّتهم، وكان لهذه الحيوانات ارتباطاتها الدينية.
ولا شكَّ أنَّ كلَّ ذلك قد وضَح من خلال دفنة الفيل التي جاءت على غِرار الدفنات الآدمية، زُوِّدت بالمتاع الجنائزي، مما جعلنا نفترض أنَّ هذا الحيوان كان بمثابة تذكار للانتصار في صيده، أو هو حيوانٌ كان محببًا، وكانت له دلالته الخاصة، التي تُمثِّل وتُظهِر قوةَ وسيطرةَ أصحاب الجبَّانة، وهم الحكام الأوائل بهيراكونبوليس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة