وصلت البعثة العلمية الثالثة التى أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا فى شهر يوليو 1826، وكان عددها فى البداية 42 تلميذا، ثم لحق بهم غيرهم، حسبما يذكر الأمير عمر طوسون فى كتابه «البعثات العلمية فى عهد محمد على ثم فى عهدى عباس الأول وسعيد».
كان الفرنسى مسيو جومار مشرفا على هذه البعثات بتكليف من محمد على باشا، ويذكر «طوسون» أن الدارسين كانوا فى مختلف فروع الإدارة والفنون والعلوم، وكتب «جومار» تقريرا عن حالتهم العلمية فى سنة 1828 نشره فى المجلة الآسيوية، وذكر فيه أمام كل واحد منهم عمره، والبلد الذى ولد فيه والفن الذى يدرسه.
يذكر التقرير أن هؤلاء الشبان وزعوا تقريبا على أحسن المدارس الداخلية فى باريس، وكثيرون منهم كانوا يدرسون فى المدارس الابتدائية الملكية، وفى 28 فبراير، مثل هذا اليوم، وأول مارس 1827، جمعوا فى مكان واحد لاختبارهم وامتحانهم امتحانا عاما فى وقت واحد، لأن ذلك هو الواسطة الوحيدة لمعرفة مقدار تقدمهم، وحضر هذا الامتحان جمهور عظيم من ذوى المقامات، كالقضاة وأساتذة جامعة باريس وأعضاء المجمع العلمى ورجال الجيش، وكثيرون من أفاضل الأجانب.
يكشف تقرير «جومار» الذى ينقل منه عمر طوسون، أنه لأجل معرفة قوة هؤلاء التلاميذ النسبية، تقرر امتحان الذين فى درجة واحدة من بينهم فى موضوع واحد يؤدونه فى وقت معين، وهذه الطريقة مع الامتحان الشفوى تظهر معارفهم اللغوية، وتبين بالدقة درجاتهم بالنسبة لبعضهم، وكان موضوع الامتحان فى اللغة الفرنسية هو الإنشاء والتحليل المنطقى والإعراب النحوى، أما امتحان الرياضة، فكان فى مسائل مختلفة من علم الحساب والجبر والهندسة، وفى النهاية امتحنوا فى الرسم امتحانا يسهل على التلاميذ الجدد تأديته، وأعطيت لهم ساعة فقط لامتحان اللغة وساعة وربع الساعة لامتحان الرياضة.
يذكر التقرير أسئلة امتحان الرياضة، وكان واضعها مسيو فرانكير، المدرس بكلية العلوم الرياضية، ويقر بأنها سهلة على تلاميذ متقدمين، ولكنها انتخبت للتلاميذ المصريين مراعاة لقوتهم، ولقصر الزمن الذى أعطى لهم فى الامتحان، ومن هذه الأسئلة: «42 رجلا فى سفينة ليس بها من الماء إلا ما يكفيهم مدة خمسة عشر يوما بتقدير لتر ونصف من الماء لكل رجل فى اليوم، فما الذى يعطيه كل واحد منهم من الماء حتى تتمكن السفينة من البقاء فى البحر مدة 25 يوما»، وسؤال ثانٍ: «إيجاد عدد يكون حاصل ضرب نصفيه مساويا لحاصل ضرب ثلاثة أثلاثه ثم وضع هذه المعادلة وحل المسألة».
يذكر التقرير أنه فى نهاية الامتحان، قدم كل تلميذ جملة أوراق يتضح منها حسن الخط وصحة الإملاء فى وقت واحد، وبعد ذلك أدوا الامتحان الشفهى الذى دام يومين، وفى النهاية وضعت الدرجات وأعطيت المكافآت لأوائل الناجحين.
يكشف التقرير: فى الامتحان الشفهى لوحظ أن الجمل التى كتبها التلاميذ على السبورة ليعربوها ويحللوها تحليلا منطقيا تدل على الرزانة وشدة الفطنة مع متانة المعنى، ويستشهد التقرير ببعض كتابات الممتحنين، كتب أحمد يوسف: «قد أشرقت علينا الشمس شروقا ينبئ عن السعادة وستغيب كذلك»، وشرحها شرحا جيدا جعل به هذه الجملة رمزا لمجىء البعثة المصرية»، وكتب خليل محمود: «إن العلم منار تستنير به عقولنا وهو سبب لذاتها ومتاعبها الشريف»، ثم أعربها بوضوح وسهولة أدهشا الحاضرين، أما الشيخ رفاعة الطهطاوى فقد سئل: ما هو الامتحان؟ فأجاب: بالامتحان يكرم المرء أو يهان.
والأفندية مظهر واسطفان وعلى هيبة وخليل محمود نالوا الجائزة الأولى فى الإنشاء الفرنسى والإعراب، وحصل مظهر أفندى أيضا على جائزة علمى الجبر والهندسة، وحصل محمود أفندى على جائزة الهندسة، وأما علم الرسم فقد نال جائزته أحمد العطار ومحمود أفندى وأحمد النجدلى، وأعطيت ست جوائز للتلاميذ الذين يلون هؤلاء فى النجاح، وهم الشيخ رفاعة وبيومى ومحمد شنان ومحرمجى ويوسف أفندى وأحمد النجدلى.
يضيف التقرير، أن الجوائز يظهر جليا منها أن المصريين الأصليين نجحوا بقدر ما نجح العثمانيون المتمصرون، فقد نال الجوائز من المصريين ثمانية من سبعة عشر، ومن العثمانيين ستة من سبعة عشر، وكان توزيع الجوائز على من نالوها يوم 4 يوليو 1827، وخطب فى هذا الاجتماع مدير دروس التلاميذ المصريين بعد أن أظهر مقاصد الحكومة المصرية.
يذكر التقرير، أنه من المدهش الذى لا يكاد يصدق أن عربا أتوا باريس منذ عشرين شهرا تمكنوا من أن يعبروا عن أفكارهم بشعر فرنسى لا عيب فيه، وألفوا مقطوعات منه يشرف الفرنسيين إتيانهم بها، وإنما يعرف قيمة ما كتبوه من يعرف من هم هؤلاء الذين كتبوا، وفى كل ما يخطه هؤلاء الشبان المصريين باللغة الفرنسية، يجد القارئ ضربا غريبا من البساطة وحرية الفكر يستأهل الذكر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة