كثير من المتابعين يرون في أكرم حسني ممثلا كوميديا من طراز رفيع، استطاع أن يحفر لنفسه طريقا وسط المنافسين، وأن يجد له أسلوبا مميزا، وأنا أيضا أرى فيه كل هذا، كما أرى فيه "العوض الجميل" عما فقدناه من قامات الفن الكبرى، والامتداد الطبيعي لمدرس عبد المنعم مدبولي وأمين الهنيدي والوريث الفني الأجدر بسمير غانم، فهو الفنان الكوميدي صاحب الطلة المحببة، والمؤدي المقتدر للأغنيات الحفيفة التي أصبحت علامات في الذائقة الحديثة، والشاعر المنطلق الذي يعرف أسرار التشكيل بالكلمات، فهو موهبة من ذهب خالص لا شوائب فيها ولا تصنع، والفنان الذي يحبه كل أفراد الأسرة وينتظرون ما يقدمه.
عمل بعد عمل، استطاع أكرم حسني أن يوسع قاعدة جماهيره وأن يصنع جيلا من محبيه، وهذا ما جعلني أنتظر بمزيد من الشغف مسلسله الجديد "بابا جه" وفي الحقيقة فقد كنت أتوقع أن يكون هذا المسلسل مختلفا عن سابقيه، لعدة أسباب، أولها ثقتي في المحرج الكبير خالد مرعي ثانيا معرفتي الوثيقة بكاتبي العمل وائل حمدي ومحمد اسماعيل أمين، وهذا الثلاثي بالإضافة إلى أكرم حسني بالطبع أوحى إلي أنني سأشاهد عملا مختلفا، وهو التوقع الذي لم يخب.
يمكنني أن أقول إن المسلسل يرفع شعار "الضحك ليس دليلا على التفاهة" فهو يتناول بشكل رئيسي تيمة "الأب" وهي تيمة قريبة وغريبة في آن، فمن وجهة نظري أن الأب من أكثر التيمات التي تعرضت للظلم في الدراما المصرية، وليس أدل على هذه المظلومية التاريخية التي يتعرض لها الأب من أن أشهر الأفلام التي تناولت معاناته وإقباله على المخاطر من أجل سعادة أبنائه اسمه "أم العروسة" ولذلك كنت أتعشم أن يرد المسلسل بعضا من الحق المهدر للأب، لكنه على النقيض تماما، أتى ليدين الأب المهمل المتراخي في تربية بنته والمكتفي بمشاهدة الأم وهي تعمل وتنفق على البيت، وهو ما تسبب في وقوع الأب في أزمة حقيقية، حيث تقرر البنت أن تعرضه للاستغناء أمام أصدقائها في المدرسة لأنه من وجهة نظرها "مالوش لازمة"!
هذه صدمة غير متوقعة، ومفارقة مؤلمة برغم أنها تأتي في ثوب كوميدي خفيف، وإمعانا في تعظيم الأزمة يمضى الأب يوما مع طفل تمسك بعرض الابنة بالاستغناء عنه، وتحت ضغط الحاجة يصبح أكرم حسني "أب تحت الطلب" يجلبه طفل يتيم يعاني من فقدان الأب، ويستأجره طالب مستهتر يعمل "هاكر" وأظن أن هذه المفارقات ستتكرر في الحلقات القادمة، وسيعيش الأب في العديد من المغامرات التي تخبره بأن ضياع الأب أو على الأقل إهمال تأديه دوره يؤدي حتما إلى العديد من الأزمات التي يعيشها الطفل، والتي قد تتحول إلى كوارث، وهو ما يعد درسا تعليما لكل أب وليس لأكرم حسني فحسب.
من أكثر الإيجابيات التي لفتت نظري في هذا المسلسل هو الحرفية الشديدة التي كتبت بها الحلقات، فهذا مسلسل "فنتازي" يفترض حبكة خيالية، لا وجود لها في الحقيقة بالطبع، لكنه إتقان صياغة هذه الحبكة يجعلنا نصدق الحدوتة ولا نتساءل عن قابليتها للتحقق، فقد نجح كلا من وائل حمدي ومحمد اسماعيل أمين في تضفير حلقات الدراما والاهتمام بتفاصيلها المتناثرة، حتى أصبح الفنتازي واقعيا، والكوميديا الخفيفة تحمل رسالة كبيرة، أما المخرج خالد مرعي الذي عودنا دائما على تقديم كوميديا مختلفة مثل أيقونته عسل أسود وآسف على الإزعاج وبلبل حيران فقد أثبت أن له فلسفته الخاصة في تقديم الكوميديا وأن الغرض من الكوميديا ليس الإضحاك فحسب، بل تقديم المفارقات المجتمعية في صورة مكبرة، لنتداركها ونستكشف عيوبها وسلبياتها، وهو أمر أرى أننا الآن في أمس الحاجة إليه، فقد نسي الكثير من الآباء دورهم المفترض، كما تنازلت الكثير من الأمهات عن رسالتهن الأهم، والنتيجة أن الكثير من البيوت تعرض للانهيار دون أن نشعر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة