لم يمر شهر رمضان الكريم إلا وكان لدى كل أديب ورائى مواقف وكتابات يكتبها خلال الشهر الكريم، تعبيرا عن الطقوس التى تمارس فيه أو لوصف حالات الفرحة والخير، وخلال السطور التالية سوف نقدم ما كتبه الأديب والدكتور يوسف إدريس.
فى عام 1956 صدرت له مجموعته القصصية الثانية "جمهورية فرحات" وفى أحد فصول قصة بعنوان "رمضان"، ليسرد لنا من خلالها حكاية طفل يدعى فتحى.
وقال يوسف إدريس "فتحى ابن العاشرة من عمره، الذى يحلم بخوض تجربته الأولى فى الصيام لأسباب لا شأن لها بالدين، ذلك أن طموحه هو أن يتم اعتماده عضوًا كامل الأهلية فى قائمة الكبار الذين يصومون، والاستمتاع بلذة تناول وجبة السحور مع الأب والأم، لذا كان ثائرا جداً على الرجال الكبار وعلى أبيه بنوع خاص، فمن حوالى ثلاثة أعوام على ما يذكر، طلب من أبيه أن يصوم رمضان، فقال له أبوه " لا يصح قبل أن تبلغ الثامنة"، وكظم فتحى صبره وانتظر عامًا طويلًا على مضض، وحين حلت مقدمات رمضان من العام التالى وبدأ يرى " الفطرة " و" النقل " و"عين الجمل" تملأ الأجولة أمام الدكاكين، لم ينتظر حتى يُفاجأ بالأمر الواقع، وإنما قبلها بكثير انتهز لحظة انسجام من لحظات أبيه، وفتحى يعرف أن لحظات الانسجام تلك تأتى فى أول الشهر، انتهز الفرصة وذكره بما قاله فى العام الماضى، وأردف هذا بقوله إنه خلاص قرر أن يصوم، وادعى أبوه النسيان التام فى أول الأمر، ثم لما أخذ يذكره ويضيق عليه الخناق قال له " لا صيام لمن لا يصلى".
وكانت إجابة فتحى حاسمة صريحة إنه حتمًا سيصلى، وحسب أن الأمر لن يكلفه أكثر من الوضوء والصلاة، ثم يُتاح له بعد ذلك أن يصوم، وكان فى هذا متفائلًا جِدا إذ لم يتح له أبدًا أن يصلى كما أراد، فقد توضأ كما تعلم فى المدرسة، وفرد "سجادة" أبيه ليصلى عليها، فإذا بأبيه يسبقه ويطويها، ولما سأله فتحى عن السبب أجابه بأنه يشك فى وضوئه وطهوره، ويخاف على السجادة أن تلحقها النجاسة، فترك السجادة وصنع لنفسه مصلى من جلبابه القديم النظيف، ولم يعترف أبوه أبدًا بطهارة الجلباب، وبالتالى لم يعترف بصلاته، وقرر فتحى حينئذٍ أن يجبر أباه على الاعتراف فيذهب ويصلى فى الجامع".
إذ يحظى الطفل الحالم بموافقة أبيه، التى يعلنها على مضض يخلو من الحماس، يندفع إلى نشر الخبر مباهيًا مفاخرًا، لكن ممارسة تجربة الصيام تخلو من البريق الخارق المأمول الذى يسكنه ويسيطر عليه، ثم تبدأ المعاناة المرهقة مع ميلاد النهار الأول فى شهر الصيام الصيفى قائظ الحرارة، يولد الشعور الحاد بالعطش مع الاستيقاظ من النوم، ويبدو الماء كأنه اكتشاف لا يعرفه فتحى من قبل، لا مهرب من أزمة العطش الخانقة إلا بالإفطار سرًا وشرب الماء حتى يرتوى، مع ادعاء الاستمرار فى الصيام علنًا، تأكيدًا لرجولته التى تشكك فيها أمه، لا شيء يحول دون الإقدام على خطوة خطيرة كهذه إلا قيود الضمير الدينى الذى تربى عليه، حيث الخوف الكامن من الانتقام الحتمى المروع الذى سيطوله جراء فعلته : " إن رمضان سيعرف لأنه يرى الناس ولا يرونه، ويعرف إن كانوا يفطرون أو لا يفطرون "، ارتسم رمضان فى عقل فتحى، هائلاً فى حجم الدنيا كلها".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة