هددت السلطة العسكرية باتخاذ أقسى ما يكون من الوسائل الحربية، عقابا على ما يقع من الاعتداء على طرق المواصلات، بعد أن تزايدت أعمال التخريب فى أرجاء مصر منذ اندلاع الثورة، يوم 9 مارس 1919، ووجه وزراء وعلماء وأعيان نداء إلى الأمة المصرية فى بيان بوقف هذه الاعتداءات، وفقا لما يذكره عبدالرحمن فهمى «قائد الجهاز السرى للثورة»، فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية».
صدر هذا البيان فى 24 مارس، مثل هذا اليوم 1919، ونصه: «لا يخفى على أحد أن الاعتداء على الأنفس أو على الأملاك محرم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية، وأن قطع طرق المواصلات يضر أهل البلد ضررا واضحا، إذ هو يحول بينهم وبين مباشرة مصالحهم، ويوقف حركة نقل المحاصيل والأرزاق، ويعطل المعاملات والأخذ والعطاء، ويسبب العسر وسوء الحال، على أن العقاب عليه يعرض بعض القرى للتخريب، ويعرض الأنفس البريئة إلى أن تؤخذ بما لم ترتكب من الذنوب، وينبغى أن يلاحظ أن مثل هذا الاعتداء يضيع على المصريين ما ينتظرونه من العطف عليهم بما يسبب من رواج شائعات السوء عنهم ».
يضيف البيان: «من أجل ذلك رأى الموقعون على هذا، من أقدس الواجبات الوطنية، أن يناشدوا الشعب المصرى باسم مصلحة الوطن أن يجتنب كل اعتداء، وألا يخرج أحد فى أعماله عن حدود القوانين حتى لا يسد الطريق فى وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق المشروعة، كما أننا ندعو أعيان البلاد وأرباب النفوذ فيها أن يقوموا بالواجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فيسارعوا إلى اتخاذ ما لديهم من الوسائل لمنع وقوع ما ينجم عنه ضرر البلاد ».
وقع على البيان، شيخ الجامع الأزهر «محمد أبوالفضل»، ومفتى الديار المصرية «محمد بخيت»، وبطريرك الأقباط «كيرلس»، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية «عبدالحميد البكرى»، ورئيس المحكمة الشرعية العليا «محمد ناجى»، ونقيب الأشراف «عمر مكرم»، ورئيس الوزارء «حسين رشدى باشا»، ورئيس الجمعية التشريعية «أحمد مظلوم باشا»، كما وقع 46 آخرون، ويرى الدكتور يونان لبيب رزق فى تحقيقه لمذكرات عبدالرحمن فهمى «أن الموقعين يتكونون من رجال الحكومة مع رجال الوفد أو رجال الحزب الوطنى».. ويؤكد أن سبب هذا الاصطفاف هو «الإضرار بمصالحهم الاجتماعية باعتبار أغلبهم من ملاك الأراضى الزراعية، وأن قطع المواصلات أساء إليهم اقتصاديا».
يكشف الشيخ عبدالوهاب النجار «مفتش أول اللغة العربية بوزارة المعارف» فى مذكراته عن هذه الأيام فى كتابه «الأيام الحمراء» تحركات أخرى لعمد وأعيان، قائلا: «حضر من الغربية فى هذا اليوم نحو 23 عمدة من طنطا، ليرفعوا احتجاجا لدى قناصل الدول والقائد العام على ما حصل بطنطا من الفظائع وقتل الأبرياء، ويطلبوا سحب القوة الإنجليزية من مدينتهم والسماح للوفد بالسفر إلى أوروبا وإطلاق المعتقلين، ويبينوا أنه بدون ذلك لا يهدأ للبلاد حال، وروى لى أحد العمد شيئا كثيرا مما حصل فى بلاد الأرياف فى نواحى الجعفرية وكفر الشيخ وسواهما، وكل الأعمال المذكورة خال عن الاعتداء على الأرواح من الإنجليز أو غيرهم، وإنما يقصد الفاعلون تخريب ما للحكومة على الأخص، فقلت له إن تخريب أموال الحكومة إنما هو إتلاف للثروة المشتركة للأمة، ومثلهم فى ذلك مثل من يسىء إلى خصمه فيعمد إلى خنق نفسه، فرد على بأن ذلك شىء نقوله هنا، ولكنهم هناك لا يصغون إلى فلسفتهم، ثم قال لى إن الإنجليز إلى الآن لم يعملوا للناس شيئا يخفض من حدتهم ويسكن ثائر أنفسهم، وإن الروح السارى فى الناس والغضب المستولى على أنفسهم لا يهدأ إلا بنيل المطالب، وهم فى هذا الهياج لا يبالون رؤوسهم تطاح ودماءهم تباح وأرواحهم تذرها الريح ».
كما يروى «النجار» قصة أخرى، قائلا: «فى هذا اليوم أنبأنى صديق لى بأن عبدالله أباظة بك من وجهاء الأسرة الأباظية وفد إلى مصر فى عدد كبير من وجهاء منيا القمح، ويمموا دار القنصيلة الأمريكية، فقابلهم السكرتير وسألهم ماذا يريدون؟»، فقالوا له نريد مقابلة القنصل لنرفع إليه احتجاجنا على الدكتور ويلسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة، ونطلب منه التعويض عن مصابنا، فضحك وقال لهم: وكيف ذلك؟ فقالوا له: إنه أعلن مبادئه الأربعة عشر وطلب الصلح عليها، فقبلها الألمان والمتحاربون، ومن مبادئه أن الشعوب الضعيفة تستشار فى مصيرها ولا يحكم شعب بالقاهر عنه، وعقد مؤتمرا لذلك تسمع فيه أصوات الأمم والشعوب، فاغتررنا بمبادئه ووعوده وقمنا نطالب بحقنا، فكان جزاؤنا أن أرسل الإنجليز علينا طياراتهم تقذفنا بالقنابل المهلكة المدمرة، فقتلوا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، ولكونه هو الذى غرر بنا حتى أوقعنا فى الضرر، نطالبه بتعويض ما أصابنا من خسارة، ونحتج عليه أشد احتجاج، لأنه قال قولا لا يثق من نفسه ولا ممن ينصرهم ويحارب فى صفوفهم بتنفيذه، فذهب السكرتير إلى القنصل، وقص على سمعه ما قالوه له، فقال لهم: إن القنصل سيرفع إلى الدكتور ويلسن أقوالكم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة