من العلامات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية غزوة بدر الكبرى، التي وقعت بين المسلمين والمشركين لـسبع عشرة ليلة خلتْ من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وقد سمَّاها القرآن الكريم "يوم الفرقان"، ولذا أطلق عليها أصحابُ السِّيَر والمَغازي "غزوة الفرقان"؛ ذلك أن المتأمل لأحداثها يدرك ما فيها من تجليات قدسية، وفيوضات إلهية، وهَيْبَةٍ حقيقية، يمتلئ بها العاقل عبرة وعظة، يجعلانه يتذكرها ويتأسى بها مهما مرت به السنون والأحداث، فينغرس بداخله من معاني الثقة بالله تعالى أنه مهما اشتدَّ الباطلُ وقوِيتْ شوكتُه وعلا صوتُه، فسوف ينصر الله تعالى الحقَّ لا محالة، إذا ما صاحَبَه صدقٌ في العزم، وخلوصٌ في القصد، وإحسانٌ في التوجه إلى الله تعالى.
قال الإمام محب الدين الطبري في "خلاصة سير سيد البشر" (ص: 52، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [غَزْوَة بدر لسنة خلت من الْهِجْرَة، وَثَمَانِية أشهر وَسبع عشرَة لَيْلَة خلتْ من رَمَضَان، وَأَصْحَابه يَوْمئِذٍ ثَلَاثمائَة وَبضْعَة عشر رجلًا، وَالْمُشْرِكُونَ بَين التسعمائة وَالْألف، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْفرْقَان فرق الله فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَفِيه أمده الله تَعَالَى بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين] اهـ.
غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
استعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ـ 313، أو 314، أو 317 رجلاً ـ 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان : فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ومرثد بن أبى مرثد الغنوى يعتقبون بعيراً واحد.
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشى العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.
وقسم جيشه إلى كتيبتين :
1-كتيبة المهاجرين : وأعطى رايتها على بن أبى طالب، ويقال لها : العقاب.
2-كتبية الأنصار : وأعطى رايتها سعد بن معاذ. ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ.
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين فى الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة، وظلت القيادة العامة فى يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسى المؤدى إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء، فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك فى ناحية منه حتى جزع ودياً يقال له : رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو الجنى وعدى بن أبى الزغباء الجهى إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.
قوام الجيش المكي
وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل فى بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة دِرْع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل ابن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من الإبل.
مصرع أبى جهل
قال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه إنى لفى الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأنى لم آمن بمكانهما، إذ قال لى أحدهما سرًا من صاحبه : يا عم، أرنى أبا جهل، فقلت : يابن أخي، فما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال : وغمزنى الآخر، فقال لى مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس. فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذى تسألانى عنه، قال : فابتدراه فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( أيكما قتله ؟ ) فقال كل واحد منهما : أنا قتلته، قال : ( هل مسحتما سيفيكما ؟ ) فقالا : لا. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال : ( كلاكما قتله )، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومُعَوِّذ ابن عفراء.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ ) فتفرق الناس فى طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزانى ؟ أأعمد من رجل قتلتموه ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه ؟ وقال : فلو غير أكَّار قتلنى، ثم قال : أخبرنى لمن الدائرة اليوم ؟ قال : لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه : لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم فى مكة.
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبى جهل، فقال : ( الله الذى لا إله إلا هو ؟ ) فرددها ثلاثًا، ثم قال : ( الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه )، فانطلقنا فأريته إياه، فقال : ( هذا فرعون هذه الأمة ).
قتلى الفريقين
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين فى هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: (بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتمونى وصدقنى الناس، وخذلتمونى ونصرنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس) ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر.