يمثل الدكتور شاكر عبد الحميد حالة خاصة بين النقاد والمثقفين العرب، ذلك لأنه كان ينطلق من رؤية خاصة وثابتة في التعامل مع الثقافة العربية، فقد بدا من بداية مسيرته الطويلة عازما على أن يؤدي دور الربط بين الثقافة العربية وآخر ما وصلت إليه الثقافة العالمية من تطور في المناهج والنظريات وزوايا الرصد والنظر والدراسة وأحدث النزعات الفكرية التي كان يتابعها في لغاتها. وبرغم اختصاصه في علم نفس الإبداع إلا أنه تجاوز هذه الحدود الضيقة وبدا غير قانع بها، فخرج منها إلى رحابة الفلسفة ودراسات الدين والأنثروبولوجيا والخرافات والأساطير والنقد الثقافي وعلاقتها بالأدب والإبداع وغيرها من المناهج والنظريات.
تنوع إنتاج الدكتور شاكر عبد الحميد بين التأليف والترجمة وهو صاحب النصيب الأكبر من إصدارات سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وهي السلسلة الأبرز التي عليها إجماع من حيث جودتها وقوة إصداراتها وكونها طليعية وركزت على نقل الثقافة الحديثة والفلسفة والأفكار والنظريات الأحدث سواء كانت مؤلفات أجنبية مترجمة أو لمؤلفين عرب. ألَّف وصنف العديد من الكتب التي يمثل كل واحد منها مرجعا أساسيا في موضوعه. ثمانية كتب للدكتور شاكر صدرت عن هذه السلسلة وهو الرقم الذي لم يحظ بمثله أو قريب منه أحد غيره من أعلام التأليف في الأدب والثقافة في الوطن العربي. اتجهت انتقاءاته ومؤلفاته إلى منطقته المفضلة وهي علم نفس الإبداع، بين فنون الرسم وبخاصة عند الأطفال وهي موضع اهتمامه البحثي في المرحلة المبكرة، وكذلك علم نفس الإبداع الأدبي، في الخيال والفكاهة وسيكولوجية فنون الأداء والتفضيل الجمالي والغرابة والأدب وعصر الصورة وسيكولوجية التخييل والخيال والذاكرة والحلم والأساطير وغيرها الكثير من الموضوعات. وحين ترجم في الأساطير والأنثربولوجيا والتفسير أو التأويل وعلم الهرمنيوطيقا ونقل كتابا ليفي ستراوس – أحد رواد هذا المجال - فإنه كان يتجه تدريجيا إلى ساحة التحليل الأدبي والتطبيق على النصوص والخطابات الأدبية المتميزة، ومنها كتب عن الأسطورة عند إدوار الخراط ومحمد عفيفي مطر وغيرهم من الكتاب والأدباء البارزين.
يبدو واضحا في كثير من مؤلفات الدكتور شاكر عبد الحميد أنه يحاول مواكبة الجيد دائما في الثقافة الغربية من الأفكار المركزية التي تمثل محركا للثقافة العربية والنقد الأدبي العربي أو النقد الفني بشكل عام. ترجم عن أهم أعلام النقد الغربي فرويد وكارل يونج وليفي شتراوس وجوليا كرستيفا ومدرسة فرانكفورت أدورنو وماكس هوركهايمر وجان بيلمان نويل، ومن الفلاسفة نيتشه وهنري برجسون وكانط وأتو رانك وفالتر بنيامين وغيرهم، وترجم لرواد البنيوية التكوينية ونقل عنهم، كما نقل كثيرا من اتجاهات ما بعد الحداثة وما بعدها، فيبدو جامعا بين أهم المقولات الخاصة بعلم النفس أو بتحليل الخطاب وعلم النص مع زاويته الأساسية وهي علم النفس، فلا يكون مقصورا على زاوية بعينها أو جانب واحد، بل حاول أن يجمع بين المنظور اللغوي مع النفسي وكثيرا ما ينطلق في قراءاته ومقارباته من العلامات أو البنية المادية وبخاصة المعجم أو الإحصائيات المعجمية ويبحث عن بصمة كل كاتب أو خصوصيته الأسلوبية وينفذ إلى الأغوار والسمات النفسية منطلقا من البنية الظاهرة وبخاصة العنصر التركيبي والمعجمي أو البنية الفعلية والأنطولوجيا المادية للأعمال الأدبية.
في تطبيقات الدكتور شاكر عبد الحميد ودراساته النظرية عدد من الخصائص المهمة، مثل أنه دائما ما كان يربط القديم بالجديد وحين يتناول ظاهرة حديثة أو معاصرة كان يعود كثيرا للتراث، فنجده في كتاب الفكاهة يرجع إلى الجاحظ مثلا، أو أحيانا في كتابة الغرابة ما يعود إلى كتب تراثية كثيرة مثل كليلة ودمنة أو التوحيدي أو ألف ليلة وليلة، فلم يكن متجاهلا أبدا لتراثنا أو منفصلا عنه، بل حاول أن يرى ما فيه من زوايا ولمحات إنسانية ولهذا فإن كثيرا من كتبه تنطوي على مباحث ودراسات في التراث العربي نظنها مهمة ومختلفة عن سائر الدراسات الحديثة. وفي تطبيقاته أيضا لا يمكن أن تجد تحليلا أو مقاربة منفصلة تماما عن الطرح النظري أو غير مقيدة بإطار أو نظرية أو منهج، بل كان دائما ما يطرح مصطلحات جديدة بالنسبة للساحة العربية ويحاول التطبيق عليها، وهكذا فإن الباحثين العرب كانوا يجدون في كتبه فائدتين؛ الزاد النظري والمعرفي الذي يستمدونه في دراساته أو يهتدون عليه، وكذلك المحاولة التطبيقية التي هي كاشفة عن خصوصية كل باحث، ومحل تطور واختلاف نسبي كبير.
في غالبية مؤلفات الدكتور شاكر عبد الحميد التي تمثل مراجع كبيرة يمكن أن يلمس القارئ بسهولة أنه كان مشغولا دائما برصد التحولات الثقافية والاجتماعية ورصد انعكاساتها وتجلياتها في الإبداع، ينشغل برصد الظواهر الكبري ويبحث فيما هو بين الأدب والمجتمع أو العكس، ويربط بين الفردي والجماعي، ويبدو أنه يرصد الظواهر في حضورها الرأسي عبر الزمن بشكل تاريخي مع تجسيدها أو جعلها بارزة وواضحة أو مجسدة في تفاصيل وأدلة وآراء لفلاسفة أو باحثين آخرين أو مراقبين للظواهر الثقافية، وهذا ما فعله حتى آخر الظواهر والأحداث ومنها جائحة فايروس كورونا المستجد حيث كتب مقالة رصد فيها آراء كثير من المفكرين والمنظرين عن تأثيراتها وتداعياتها في الثقافة والفنون والآداب وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فهذا هو نسقه الثابت في الكتابة والتأليف ورصد الظواهر، ويتضح من بداية مؤلفاته الكبيرة المهمة في عالم المعرفة مثل الذوق أو العبقرية أو الغرابة أو التفضيل الجمالي أو سيكولوجية الإبداع أو عصر الصورة والفكاهة.
ينشغل بما هو مؤغل في القدم وبما هو آني أو يبدو فاعلا في اللحظة الراهنة أو يؤدي عمله. وهو ما يكشف عن شجاعة كبيرة في سمته البحثي، فهو من النوع الذي يملك جسارة مقاربة الآني وبحثه في وقت تحولاته، وهذه ربما يخافها كثيرون أو يفضلون الابتعاد عن الظاهرة والاقتصار على شقها التاريخي أو القديم فقط. وأتصور أن هذه السمة من الشجاعة في ملاحقة الحديث ورغبته الدائمة في نقل الأفكار والنظريات الجديدة والطروح القلقة أو التي مازالت في أطوار تكونها أو تشكلها كان نابعا من أنه يقرأ في عديد اللغات الأخرى غير العربية وكان يتابع أحدث المراجع والمؤلفات ويحرص دائما على اقتنائها في أسرع وقت، ولهذا فإن النظر في قوائم المصادر والمراجع لأحدث مؤلفاته يكشف عن أنه يمزج بشكل دائم بين المراجع العربية والأجنبية بشكل متكافئ تقريبا دون انبهار تام بكل ما هو غربي أو دون تقليل من الثقافة العربية والاعتناء بكل أصيل فيها، كما يبدو أن أغلب هذه المراجع حديثة من وقت كتابته أو إصدار مؤلفه، وفيها أيضا جمع واضح بين الكتب التنظيرية والفكرية وبين كتب الإبداع أو النصوص الأدبية، أي أنه لم يكن منشغلا تماما بالتنظير على حساب التطبيق وضرب الأمثال والشواهد.
كما يمكن أن يلمس قارئه أن كتبه فيها حس سردي دافئ وواضح برغم طابعها العلمي، فكان يحاول أن يتجاوز جفاف الكتابة العلمية إلى نوع من الكتابة الأدبية النابضة والمشوقة، فكان يبدأ مثلا كتاب الفكاهة بقصة أو حادثة أو شيء ظريف وفكاهي، وكتاب الغرابة يبدأه بحكاية من ألف ليلة وليلة، وهكذا يبدو أنه كان دائما حريصا على تشويق القارئ وجذبه برغم الطابع البحثي والفكري.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة