دخل الوفد الرسمى المصرى على العاهل المغربى الملك محمد الخامس يوم 28 مارس، مثل هذا اليوم 1956، فقدم الملك التحية لشعب مصر ورئيسها جمال عبدالناصر، ثم بدأ فى تقليد أرفع الأوسمة لأعضاء الوفد الثلاثة، وأثناء ذلك حدثت مفاجأة، يكشف عنها الإعلامى أحمد سعيد رئيس إذاعة صوت العرب منذ تأسيسها عام 1953 حتى هزيمة 5 يونيو 1967، فى مذكراته غير المنشورة «بحوزتى صورة منها».
كان أحمد سعيد ضمن أعضاء الوفد، ومعه، وزير الأوقاف الشيخ أحمد حسن الباقورى، والدكتور إبراهيم سلامة المحاضر السابق بجامعة القرويين المغربية، وكانت المناسبة تقديم التهنئة باستقلال المغرب وعودة الملك محمد الخامس من منفاه، وكانت إذاعة «صوت العرب» الصوت الإعلامى الأبرز فى مساندة نضال الشعب المغربى ضد الاحتلال الفرنسى الذى خلع محمد الخامس من العرش ونفاه إلى مدغشقر يوم 20 أغسطس 1953.
أقرت فرنسا بحق المغرب فى الاستقلال وعودة محمد الخامس يوم 2 مارس 1956، واختار جمال عبدالناصر وفد مصر لتقديم التهنئة فى المغرب، ويذكر «سعيد» أنهم مروا فى طريق سفرهم بتونس، وهناك التقوا بثلاثة من صناع الثورة الجزائرية التى كانت مشتعلة بمساندة مصر ضد الاحتلال الفرنسى، وهم «محمد بوضياف، وحسين آية أحمد، وأحمد بن بيلا».
حرص «بوضياف» على أن ينفرد بأحمد سعيد قائلا له: ستقابلون الملك، ولدينا رسالة إليه، ولا نستطيع أن نطلب من الوزير الباقورى نقلها إليه، فنحن لا نعرفه من قبل، ثم أنت وثيق الصلة بنا وبأسرارنا ومشاكلنا، نحن طلبنا لقاء مع الملك عن طريق إخواننا فى جيش التحرير المغربى، ولكن هناك بعد الاستقلال من نجح فى إبعاد قادة المقاومة عنه، فهل تحمل طلبنا إليه بأننا فى قلق من أن تتعامل المملكة بعد الاستقلال بمهادنة مع فرنسا، ونخشى عدم استمرار المقاومة فى حمل السلاح تحت راية جيش تحرير المغرب العربى الذى وقعناه فى القاهرة بحضورك يوم 3 أكتوبر 1955، ونخشى ما يمكن أن يحدث من مشاكل مع السلطات المغربية لوجود مسلحين مغاربة منتظمين فى صفوف هذا الجيش.
يعترف «سعيد» أن هذه الهواجس الجزائرية كانت محل اهتمام عبدالناصر، وتدارسها فتحى الديب، مسؤول الشؤون العربية برئاسة الجمهورية، ومسؤول ملف الثورة الجزائرية مع زميله «على خشبة» الذى بدأ يتعامل مع الملف الجزائرى فى مجال تدريب المجاهدين فى معسكرات مصرية، وأنهما طلبا منه «أحمد سعيد» وضع خطاب إعلامى يحول مضمونه دون انسلاخ المغرب من الاستمرار سندا للثورة الجزائرية.
يتابع أحمد سعيد: «تذكرت ما استقر عليه رأى أجهزتنا المعنية فى القاهرة واعتمده الرئيس عبدالناصر، لكن خشيت لو دخلت مع «بوضياف» فى مناقشة، أن تصدر عنى كلمة تشى بما فى نية القاهرة من أساليب تقرر سريتها مرحليا»، يتذكر أنه سأل القادة الجزائريين عن المطلوب منه تحديدا، فرد «بن بيلا» قائلا: أهم من تدبير لقاء مع الملك أن ترى فرصة تطرح عليه خلالها أنكم فى مصر واثقون من أن ثورة الجزائر ستجد فى المغرب المستقل أكثر مما كانت تلقاه من المغرب تحت الحماية، فترديد هذا المعنى على مسامع الملك من مسؤول إذاعة صوت العرب سيكون له شأن كبير.
يؤكد سعيد: «قلت إن قولا يحمل مثل هذا المعنى يفترضه أن تكون لدى صلاحيات رسمية للإدلاء به»، يتذكر: تدخل حسين آية أحمد بعقلانية، قائلا: «لن تعدم كلمات مناسبة تقال للملك عن دعم ثورة الجزائر وسط عبارات تهنئة بنجاح ثورة الشعب من أجله حتى عاد إلى عرشه».
غادر الوفد المصرى تونس إلى المغرب، وأحمد سعيد محملا بما طلبه قادة الثورة الجزائرية، حتى جاءت اللحظة التى يتذكرها سعيد، قائلا: أثناء قيام الملك بوضع شريط الوسام حول رقبتى قال لى: ليس لدينا وسام يقابل ما قدمته لنا وللمغرب، يضيف سعيد: «وجدتنى أتذكر الجزائر وما يمكن أن أقدمه لها فى تلك اللحظة».
قلت للملك: بل لديك يا مولاى وسام أكبر، فتجمدت يدا الملك بالوسام على صدرى وهو يتساءل حائرا: وسام أكبر، ماذا؟، قلت: نعم أكبر، وأكرم، وأعم، وأخلد، وهو أن يقدم المغرب المستقل بك ما يعين شعب الجزائر على الاستقلال، هذا يا مولاى الوسام الذى أرجوه.
يؤكد سعيد: «هبطت يدا الملك تاركا الوسام يلتقطه رئيس الديوان قبل أن يسقط على الأرض، وبكلتا يديه مسك بيدى يهزهما بحرارة وهو يقول: «الحمد لله إنى مؤمن موحد، أعلم أنه سبحانه وضع الدْيِن على الإنسان فى الصدر، وجعله قبل الوصية تعظيما لشأن الوفاء به، وفى عنقى والمغرب دين للجزائر وثورتها، ولن يرتاح لى بال وأشعر بنعمة الاستقلال إلا يوم أن تستقل الجزائر».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة