ماذا لو سألك أحدهم عن غزة؟ بالتأكيد ستستدعى فى مخيلتك الصور المتداولة حاليا لآلاف الضحايا والمنازل المهدمة والمعاناة التى يعانيها أهلنا هناك بفعل استمرار الحرب المستعرة التى يشنها عليهم الكيان الصهيونى، ولكن هناك غزة أخرى قد لا يعلمها الكثيرون عاشها أهلها وحفرت فى ذاكرتهم لذلك لا يمكن الحديث سوى لأهلها ومنهم الطلاب الفلسطينيون الذين تركوا ديارهم ومضوا خلف أحلامهم التى رسموها وأمانيهم التى تعلقوا قاصدين مصر ملتحقين بجامعاتها وكلياتها المختلفة، قاصدين من وراء ذلك إنهاء دراساتهم وتحقيق أمانيهم والعودة إلى ديارهم.
كانت أيامهم تمضى عادية ما بين حضور المحاضرات والتواصل مع أهلهم وذويهم عبر وسائل الاتصالات المختلفة، أو من خلال رحلات الذهاب والعودة ما بين القاهرة وغزة، حتى ولو كانت فى أضيق الحدود، ولكن فى لحظة انقلب ذلك رأسا على عقب فهذه منازلهم يشاهدونها عبر شاشات التلفاز فى النشرات الإخبارية وقد تهدمت، وذووهم ما بين شهيد أو جريح أو مفقود وشوارع وأماكن الصبا والذكريات.
مشاهد تذيب الصخر وتضعف الهمة، ولكن مع هؤلاء الطلاب لم تزدهم إلا إصرارا على استكمال خطواتهم والوصول إلى نهاية طريقهم باستكمال دراستهم والعودة مرة أخرى إلى ديارهم ليعمروها ويعيدوها إلى رونقها من جديد، وهو ما أكده العديد من الطلاب الدارسين بمصر «ندى، وفاطمة، وأمنية» اللاتى التقت بهن «اليوم السابع» لتسمع حكاياتهن قبل وبعد الحرب على غزة واستقبال رمضان بعد الحرب.
فاطمة أحمد عبدالرحيم، أو الدكتورة فاطمة كما يلقبها أصدقاؤها امتازت بالتفوق منذ الصغر، حتى استطاعت إنهاء كلية بيولوجيا والتحاليل بجامعة الأقصى واستطاعت من خلال اجتهادها الحصول على منحة لدراسة الماجستير فى الإدارة التربوية بجامعة القاهرة، والتى عملت على استبدال موضوع رسالتها للماجستير لتكون عن الأحداث والعدوان الذى تتعرض له غزة بدلا من موضوعها الأصلى وهو أصول التربية مشددة على أمنياتها بأن تصبح سفيرة للنوايا الحسنة فى فلسطين.
فرحة ممزوجة بالخوف والقلق
تعيش «فاطمة»، منذ عامين فى بيت الطالبات، والذى يضم عددا من الطالبات الفلسطينيات والمصريات على حد سواء، وهو ما تصفه بالشىء الإيجابى الذى خفف عنها كثيرا خاصة من جانب صديقاتها وزميلاتها المصريات بالسكن، اللاتى حرصن على مواساتها وتقديم كل المساعدات الممكنة لها، قبل العدوان الأخير على غزة كانت فى زيارة لأسرتها هناك تقضى معهم إجازتها حيث تقطن كل أسرتها فى غزة باستثناء اثنين من أخوتها أحدهما يعيش بالأردن والآخر مقيم بدولة الإمارات بحسب ما ذكرته.
وتقول فاطمة: «خلال العامين التى قضيتهما بمصر كان أهلى يتواصلون معى ويرسلون لـى جميع نفقاتى واحتياجاتى، ولكن كل هذا توقف الآن والتواصل بيننا أصبح نادرا بسبب صعوبة الاتصالات ولكن أحاول تدبر احتياجاتى من خلال أخوتى المقيمين خارج غزة بالأردن والإمارات أو عبر اتحاد المرأة الفلسطينية بالقاهرة، والحريص على التواصل معنا وتلبية طلباتنا فى حدود الإمكانيات المتاحة له والحقيقة أنه قدم لنا دعما كبيرا خاصة فى إيجار المسكن واحتياجات أخرى».
تتذكر «فاطمة»، ساعات العدوان على غزة بقولها: «كنت بالسكن فى بيت الطالبات ولا أعلم ما يدور فى غزة بسبب انشغالى بدراستى ولكنى علمت بالخبر من أحد أصدقائى من المقيمين معى فانتابنى القلق الشديد وتأكدت أن الأيام المقبلة ستكون صعبة وثقيلة بسبب ما شاهدته وعايشته من تجارب سابقة من العدوان على غزة والتى فقدت العديد من أقربائى.
وتابعت: «فى 7 أكتوبر رأيت الفرحة الكبرى فى أعين كل من حولى بمصر، بسبب حبهم الشديد لفلسطين وأهلها، ورغبتهم فى تحريرها من يد العدوان الغاصب، وبطبيعة الحال نحن كنا أول الفرحين بذلك لأنه أثبت أننا صامدون ولا نقبل التفريط فى أرضنا أو تدنيس مقدساتنا، ولكنها فرحة ممزوجة بالخوف والقلق لأننا نعرف طبيعة العدو الذى نواجهه لا يعلم شيئا عن الرحمة، عدو غاشم ونشأ على القتل والتدمير لذلك كنا متوقيعن رده ولكننا لم نكن نتصور أبدا أن يصل الأمر إلى حجم الدم «بحسب وصفها» إلى هذا الحد فهو يمارس الإبادة بمعنى الكلمة ضد كل ما هو فلسطينى سواء كان بشرا، مبانى، هيئات، لم يرحم شيخا طاعنا أو طفلا صغيرا أو امرأة، لم يراع حرمة المقدسات، لم يترك المبانى وإنما ارسل قذائفه ومدافعه لتدك كل شبر فى غزة، ولكن هذا كله لا يزيدنا إلا صمودا وإصرار ولا يدل إلا على خوفهم الشديد من كل ما هو فلسطينى، حتى الجنين فى بطن أمه قتلوه».
المصريات دعم وسند
واستكملت حديثها: «وفى ذلك العدوان فقدت العديد من أقربائى وأسرتى ومنهم ابن عمى ويعمل صحفيا، وخالى والعديد من أصدقائى وكانت صدمة كبرى بالنسبة لى، من يعيش فى غزة يعلم المعنى الحقيقى للألم والوجع وفقد الأحبة الذى يأتى فى لمح البصر فالوضع صعب وقاسٍ علينا ورغم ذلك أحرص على الانتظام فى الدراسة وحضور كل المحاضرات بالجامعة وبفضل من الله اجتزت امتحانات منتصف العام بامتياز وهو ما أسعد أسرتى المقيمة بغزة بشكل كبير وسأستمر فى الاجتهاد والنجاح لكى أكون نموذجا مشرفا لأهالى غزة».
وتابعت: «رغم الضغوط النفسية التى نعيشها نتيجة الأخبار التى تصلنا من حين أو أخر فأهلنا ما بين شهيد أو جريح أو مفقود ولكن وجودنا فى بيت الطلبة التابع لاتحاد المرأة الفلسطينية وسط زملائنا من الطالبات المصريات خفف عنا الكثير، ولكن يبقى هناك قلق دائم أعيش فيه وفقدت 12 كيلوجراما من وزنى بسبب قلقى المستمر على أسرتى، أن أكثر ما أتمنى تحقيقه هو وقف العدوان واستقرار الأوضاع بغزة لحين عودة الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى والعيش على الأقل فى أمان وأن تأمن الناس هناك على أرواحها وتجد قوت يومها ومنازل طبيعية تأويهم وتحميهم فحتى الخيام لا يمكن الحصول عليها بسهولة فى ظل استمرار العدوان وزيادة الأعداد».
رمضان ما بين القاهرة غزة
الشهر المبارك فى القاهرة يعنى الفرحة والبهجة التى تغمر الأهالى وقصاصات الورق الملون التى تتزين بها الشوارع والمنازل هكذا تحدثت «فاطمة» عن احتفالات رمضان مضيفة خلال الشهر الكريم العام الماضى، كنت حريصة على زيارة الأزهر ومسجد عمرو بن العاص والأماكن التى تشتهر بها مصر بروحانيات رمضان ثم السفر لقضاء باقى الشهر وعيد الفطر وسط أسرتى فى غزة فى نفس الأجواء المصرية من حيث الزينات والفوانيس وزينة الشوارع والمنازل.
وبرغم ما نعانيه هذا العام ومشاهد القتل والدمار التى تحيط بنا إلا أنى فى تواصلى الأخير مع أهلى حرصت على تشجيعهم على تزيين الشوارع لاستقبال شهر رمضان وسط القصف ومشاهد الركام التى تحيط بالأحياء، ففى وقت ما سينتهى هذا العدوان وتعود غزة إلى رونقها وبهائها بسواعد أبنائها، ولكن للأسف لم يستطيعون استقبال رمضان مثل كل عام وخصوصا أن الحرب ما زالت مستمرة حتى الآن.
فقد الأهل والأصدقاء
ندى عبدالنبى الطالبة التى جاءت لاستكمال دراستها فى مصر بكلية الحقوق جامعة القاهرة، بناء على نصيحة والدتها التى أكدت على أفضلية التعليم وجودته بمصر وتم إدراجها بالفرقة الأولى كلية الحقوق ولكنها لم تتخيل أن يكون آخر لقاء بينها وبين والدها وهو ينصحها ويشجعها على استكمال دراستها والذهاب إلى مصر، فكان ذلك لقاءهم الأخير قبل أن تنقطع اخباره عدة أسابيع وتبين استشهاده فيما بعد، فضلا عن مشاهد استشهاد أغلب أصدقائها فى غزة نتيجة عدوان الكيان الصهيونى منذ السابع من أكتوبر الماضى.
وتقول ندى: «بعد إتمام والدتى لأوراق قيدى بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، لم تستطع العودة إلى غزة وفقدت عملها بسبب العدوان فاضطرت للسفر إلى شقيقها «خالى» إلى «الإمارات»، وتتكون أسرتى من 3 أشقاء الذين سافروا واستقروا فى روسيا عبر رفح بجانب شقيقة «توأمى» التى سافرت إلى الجزائر فى منحة دراسية فضلا عن والدتى ووالدى الذى علمنا بنبأ أستشهاده خلال أدائى للأمتحانات بعد انقطاع أخباره عدة أسابيع، اما أصدقائى أغلبهم يعانون اليتم سواء فقد الأم أو الأب أو الأسرة بالكامل، فضلا عن تهدم منازلنا فنحن نعانى شهور ثقيلة، ولكن دعم أصدقائى فى السكن والجامعة يهون علينا الكثير.
وأضافت: «معاناة الطلاب الفلسطينين لا تقتصر على المعاناة النفسية فقط لفقد الأحبة أو مشاهد القتل والتخريب الذى تمارس بفعل الكيان الصهيونى وإنما هناك المعاناة المادية، فمنذ بداية العدوان وراتب أبى انقطع قبل استشهاده وأمى فقدت عملها ولكن هناك العديد من الجهات التى تحاول مساعدتنا وتوفير كل سبل الدعم لنا لمواصلة دراستنا ومنهم متطوعين أتوا خصيصا لكفالتى ومصروفات أقامتى ودراستى فضلا عن اتحاد المرأة الفلسطينية الذى قدم لنا العديد من أوجه الدعم ودفعنا لاستكمال دراستنا وعن نفسى أسعى بكل طاقتى لإنهاء دراستى بتفوق والالتحاق بالعمل الدبلوماسى للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى فى المحافل الدولية.
جلسات البحر فى رمضان
برغم المعاناة التى تعيشها إلا أنها لا تنسى رمضان فى غزة وذكرياتها التى عاشتها مع أصدقائها وأهلها التى فقدت معظمهم فى العدوان الأخير فمازالت تتذكر جلسات البحر قبل الإفطار والتنزهات الليلية فى شوارع غزة بصحبة أصدقائها وأسرتها مؤكدة أن استقبال شهر رمضان والاحتفالات والفرحة بهذا الشهر كانت تماثل وتكاد تتطابق مع ما تشاهده من احتفالات فى الشوارع المصرية، مشددة على أن ما تعانيه غزة الآن سينتهى وستعود غزة إلى بهجتها مرة أخرى ولكن بالتأكيد هناك المئات أو الآلاف ممن بحاجة إلى دعم نفسى.
فزع من فقد الأهل
أمنية ناصر هى إحدى الطالبات الفلسطينيات بكلية الصيدلة جامعة القاهرة والمقيمة بالقاهرة منذ العامين لم تغادرها بسبب الظروف الدراسية وكانت تنوى زيارة أهلها ولكن منعها العدوان الأخير على غزة والذى فقدت فيه منزل أسرتها بجانب عدد كبير من أصدقائها وجيرانها.
وتقول «أمينة»: «نحن أسرة مكونة من 4 شقيقات وشقيقين، مع بدء العدوان علمت أنه تم استهداف الحى الذى تقطن فيه أسرتى وفقدنا فيه 23 فرد جميعهم استشهدوا من الأقارب والجيران والأصدقاء بجانب هدم منازلنا فالحى بالكامل تدمر ولا يوجد مأوى سوى المخيمات فقط التى يعيشون فيها بلا إمكانيات حقيقية أو وسائل إعاشة أو القدرة على التواصل بشكل جيد نتيجة ضعف شبكات النت بسبب القصف المستمر.
وأضافت: «الظروف الصعبة التى تعانيها أسرتى وقلقى المستمر عليهم والفزع من فقد أحدهم اثرت بشكل كبير على صحتى النفسية وانعكس ذلك على أدائى الدراسى فما يشغل عقلى وتركيزى الأن هو الظروف، كنت أتمنى أن يأتى رمضان ويتوقف القصف وتعود الأوضاع للإستقرار، ولكن للأسف الضرب مستمر حتى الآن، كان نفسى اقضى رمضان فى غزة وأصلى فى المسجد الأقصى وسط أهلى وأصحابى لكن خلاص مفيش بيوت ولا جيران كلهم راحوا».
أهالى غزة بحاجة إلى تأهيل نفسى
وقال الدكتور إبراهيم مجدى إستشارى الطب النفسى: «الدراسات تؤكد أن الشباب والأطفال الفلسطينيين عرضة للإصابة باضطرابات كرب ما بعد الصدمة والقلق والتوتر نتيجة العدوان المستمر فهو ليس عدوان مؤقت، فكل فترة يتعرض الأهالى هناك لمذابح جماعية ومجازر وفقدان أهل ومنازل، فضلا عن الإصابة باضطرابات النوم والإحساس بالفقدان، بجانب الإحساس بالغضب الدائم والتى من الممكن أن تستمر مع الشخص وهنا يظهر دور الطب النفسى ولا بد من تدخل المتخصصين من الأطباء النفسيين فبجانب أطباء الجراحة وأقسام الطب المختلفة لا ينبغى أبدا إهمال الطب النفسى للشعب الفسطينى خاصة فى العدوان الأخير الذى فاق وتعدى كل التصورات».
مضاعفات نفسية خطيرة
وأكد استشارى الطب النفسى على ضرورة التدخل والعلاج النفسى للناجين من أبناء الشعب الفلسطينى على يد متخصصين محذرا من تجاهل ذلك موضحا أن الألم النفسى للأسف يستمر لسنوات وتجاهله يؤدى إلى مضاعفات خطيرة، أما يتحول الفرد لشخص عدوانى عنيف أو يميل للوحدة والانطواء مع وجود طاقة من الغضب من الممكن أن تظهر بصورة مفاجئة فى موقف لا يستدعى ذلك التصرف، حتى ممن يتعافى ذاتيا يعانى أيضا من بقايا اضطراب «كرب ما بعد الصدمة»، حتى ولو بجزء بسيط لذلك لابد من تدخل المختصين بسبب صعوبة الأوضاع التى تزداد يوما بعد يوم، كما أن اضطرابات الصدمة والعنف والقلق وكل الأعراض النفسية لا تؤثر فقط على ما يعيش داخل غزة وإنما تمتد أثارها لمن يعيش بخارجها أيضا».
غزة تعيسة والمجاعات منتشرة
صعوبة الأوضاع المعيشية والنفسية داخل غزة تؤكد عليه آمال الأغا رئيس اتحاد المرأة الفلسطينية فى مصر بقولها: «الأجواء فى غزة تعيسة فهناك مجاعة ويوميا نفقد أطفال وكبار فى السن نتيجة نقص الغذاء، ومياه الشرب، ونقص الدواء والرعاية الطبية، ودورات المياه، وكل ذلك نتيجة الانتهاكات والضرب».
وأضافت: «نحاول من خلال اتحاد المرأة الفلسطينية توفير بعض الدعم والمساعدات سواء توفير الأغذية والرسوم الدراسية لحوالى 200 أسرة لأن معظم الطلبة مدرجين فى مدارس خاصة، وهناك تبرعات مالية مصرية تصل للاتحاد فهناك أسر مصرية خصصت مبالغ مالية لبعض الطلبة الفلسطينين».
وشددت رئيسة اتحاد المرأة الفلسطينية على أهمية الدعم وجلسات التعافى النفسى التى ينظمها الاتحاد للطلبة والفلسطينين بمختلف أعمارهم بالتنسيق مع المجتمع المدنى فى مصر.
وعن ذكرياتها فى رمضان قالت «الأغا»: «قبل الأحداث كنا بنتجمع دائما مع الطلبة على افطار رمضان لكن الوضع حاليا أسوأ رمضان مر على الشعب الفلسطينى، الاحداث كلها صعبة وقاسية والضرب مازال مستمرا، والضحايا مازالوا يتساقطون ففى أول يوم من شهر رمضان كان فيه قصف نتج عنه 16 شهيدا من أسرة واحد، بجانب حرمان الناس من الصلاة فى المسجد الأقصى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة