لم تكن المقاومة الفلسطينية مجرد صراع من أجل البقاء واسترداد الأرض فحسب، بل تعدت ذلك لتشمل جبهة أخرى، جبهة الدفاع عن التاريخ والتراث الثقافى الفلسطينى، إنها معركة الوجود والهوية التى تقف فى وجه محاولات محو خريطة فلسطين الأصلية من ذاكرة الأجيال الجديدة، والاستيلاء على تراثها العريق وتشويه الحقائق التاريخية.
أدب المقاومة، كما فى روايات غسان كنفانى والرسوم الكاريكاتيرية لناجى العلى وغيرهم من الفنانين، قدم نموذجا للمقاومة الفنية التى تعكس الإصرار على الحفاظ على الهوية الفلسطينية. وهذه الجبهة الفنية لم تغب عن الساحة المصرية.
مسلسل مليحة دراما تشهد على تاريخ فلسطين، وثيقة حية تنقل للمشاهد الحقيقة مع كل مشهد يُعرض وكل كلمة تُقال، ابتكر صناع المسلسل فى الآفان تتر، المشهد التشويقى الذى يسبق تتر البداية، حيث يروى جد لحفيده تاريخ فلسطين، منذ بدايات الصراع والاستيلاء على الأرض، هذا الجزء التوثيقى لا يُقدم فقط كمقدمة للأحداث، بل كجسر يربط الماضى بالحاضر، مما يتيح للمشاهد فهم الواقع من خلال إدراك التاريخ، وببساطة الحدوتة، ينجح المسلسل فى جذب الأعمار كافة.
حتى اللحظة التى نخط فيها هذه السطور، يظل سر اختيار اللهجة السيناوية للحوار بين الجد والحفيد فى «مليحة» غير معلوم، إذ لم تُستخدم اللهجة الفلسطينية أو المصرية، فهل هناك مبرر درامى يُعزز من عمق الشخصيات أو يُضيف بعدا جديدا للحبكة؟ ربما تكشف الحلقات المقبلة عن سر هذا الاختيار، وتُسلط الضوء على دوافعه.
فى «مليحة»، يتجلى التتر كعمل فنى مستقل، يعكس عبر الصور رحلة العائلة المقدسة من بيت لحم، ويستحضر لوحات تاريخية تعود للعهد الروماني، وتضامن مصر مع القضية الفلسطينية، وصولا إلى ظهور طفل ناجى العلى الشهير «حنظلة» وهو يواجه المحتلين. ويأتى صوت الفنانة أصالة، متناغما مع الترويدة الفلسطينية، يُضفى بُعدا آخر على التتر.
ومع انطلاق الدراما، تتشابك الأحداث الدرامية مع مسارات التاريخ، حيث تتقاطع قصة مليحة مع الضابط أدهم، وبالتوازى يُظهر المسلسل أيضا معاناة النزوح والتهجير، ويسلط الضوء على الجهود المبذولة لحماية الحدود.
رشا الجزار، مؤلفة المسلسل، من المؤكد أنها واجهت تحديا كبيرا فى تكثيف تاريخ الصراع وجرائم الاحتلال فى عمل درامي، وتستحق الإشادة لما أظهرته من دقة متناهية فى توثيق الحقائق وتفنيد الأكاذيب الصهيونية، مُقدمة عملا دراميا له أثر كبير فى توعية الجمهور وإلهامهم لفهم عمق الصراع ومعاناة الشعب الفلسطينى.
كما يبرز تميز مسلسل «مليحة» فى قدرته على دمج اللهجتين المصرية والفلسطينية بسلاسة، مما يُعطى العمل الدرامى طابعا أصيلا ويُسهل على المشاهد العربى التفاعل مع الحوار دون الشعور بأى غرابة. هذا الانسجام اللغوى ليس بالأمر الجديد فى الدراما العربية، حيث ظلت الشخصية الفلسطينية حاضرة بقوة فى الأعمال المصرية على مر السنين، ومع ذلك، يُعد «مليحة» عملا فريدا لتركيزه الرئيسى على القضية الفلسطينية.
بالطبع يواجه دياب تحديا جديدا مع شخصية «المقدم أدهم»، دور لم يُجسده من قبل، لكن تألقه فى أدوار متنوعة خلال السنوات الأخيرة منحه خبرة واسعة وثقة كبيرة من الجمهور، الذى بات يراه ممثلا محترفا يُجيد التنقل بين الشخصيات المختلفة بسلاسة.
أما الفنانة الفلسطينية سيرين خاس، التى تُجسد دور «مليحة»، فتُقدم أداء سلسا مستمد من تجربتها الشخصية مع النزوح خلال الانتفاضة الثانية.
وفى النهاية، يُجسد مسلسل مليحة رسالة درامية عميقة تحمل بين ثناياها التحدى والإصرار على المحافظة على الذاكرة الفلسطينية. عمل يُبرز كيف يمكن للفن أن يكون أداة فعّالة للتعبير عن الهوية والتاريخ.
شاهد المزيد من أخبار مسلسلات رمضان 2024 عبر بوابة دراما رمضان
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة