امتلأت القاعة، وتطلعت القلوب إلى ركح مسرح محمد الخامس بالعاصمة المغربية «الرباط» يوم 4 مارس، مثل هذا اليوم، 1968، حتى تحركت الستارة الخضراء الموشاة قليلا ثم انفرجت لتظهر المفاجأة الكبرى، أطلت السيدة أم كلثوم على الجماهير وهى ترتدى القفطان المغربى تحية للشعب المغربى، فضجت القاعة بالتصفيق والزغاريد لتلك اللفتة الكلثومية التى تعبر عن ذكاء غير محدود، حسبما يذكر الباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كانت سيدة الغناء العربى تقدم حفلتها الأولى فى المغرب ضمن برنامجها للغناء فى البلاد العربية لدعم المجهود الحربى بعد هزيمة 5 يونيو 1967، ويذكر «جمال»، أن يوم 4 مارس 1968 كان يوما تاريخيا بكل المقاييس فى المغرب، أعطت المؤسسات الرسمية والمصالح الحكومية وبعض مؤسسات القطاع الخاص إجازة رسمية من أجل الحفل، وصارت العاصمة قبلة كل المغاربة وغيرهم من أبناء بلاد المغرب العربى، حتى الجزائريين نحُوا خلافهم المزمن مع جارهم المغرب بعيدا، وقطعوا الطريق من الجزائر إلى المملكة المغربية بالطائرات والسيارات سعيا وراء صوت أم كلثوم، وجاء عشاقها فى تونس والمملكة الليبية إلى الرباط، ليعيشوا المشهد من بدايته، إذاعات الجزائر وتونس وليبيا والقاهرة تقوم منذ بداية اليوم بتجارب الأداء بعدما توقفت تردداتها على موجات إذاعة الرباط فى انتظار الحدث.
يذكر «جمال»: «قبل بداية توافد الجماهير المغربية على بوابات المسرح، وصل أعضاء الحكومة المغربية برئاسة رئيس الوزراء الدكتور محمد بنهيمة، وأعضاء السلك الدبلوماسى وبعض الأمراء المغاربة، وفى ذات الوقت وبعيدا عن أعين الإعلام دخل إلى المقصورة الملكية بالمسرح الملك الحسن الثانى ومعه بعض المرافقين، وجلسوا فى المقصورة المعزولة نسبيا عن قاعة المسرح الرئيسية وقد صمم لها مدخل خاص يسمح بدخول الملك دون أن يلاحظه أحد من الجماهير ومصورى الصحف».
كان ارتداء أم كلثوم للقفطان المغربى والذى فاجأت به الجمهور فى الحفلة، محل روايات عديدة حول أصله، وزعم أكثر من محل للألبسة التقليدية فى المغرب أنه صاحبه، ويذكر «جمال»: «تظل أقرب تلك الروايات للحقيقة ما صرحت به السيدة «خديجة بنونة» من عائلة «بنونة» المغربية الشهيرة فى مدينة «تطوان»، التى أكدت للتليفزيون المغربى أنها كانت تعرف مقاسات السيدة أم كلثوم من قبل، وأنها اشترت القماش الفاخر قبل أن تصل أم كلثوم إلى المغرب، ودفعت به إلى خياط مغربى، واستمر العمل فيه أكثر من أسبوعين تقريبا، وعندما علم صاحب المحل أن القفطان سترتديه أم كلثوم فى حفلها الأول رفض أن يأخذ أجره إكراما لسيدة الطرب العربى».
افتتحت أم كلثوم سهرتها الأولى برائعة «أمل حياتى» كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وتلحين محمد عبدالوهاب، واستمرت فى حدود السبعين دقيقة، ويذكر «جمال»: «طوال الوصلة كانت أم كلثوم ترصع غناءها بالحليات الغنائية التى أرادت بها إشعال الوجد بالجمهور المغربى، الذى على خلاف ما توقعت الصحافة المغربية كانت جدران المسرح تهتز لتصفيقه وصياحه وزغاريده، إلى درجة أن الصحافة عادة فى أعقاب الحفلة تنتقد ذلك التفاعل الكبير وتطلب من الجماهير عدم مقاطعة السيدة أم كلثوم بالتصفيق كى لا تخرج من سلطنتها الغنائية، وكعادتها لم تترك بابا للارتجال إلا ولجته، ففى نهاية المقطع الثالث، وعند إعادة الجملة الشهيرة «وكفاية أصحى على ابتسامتك بتقولى عيش»، دفعتها تقاسيم محمد عبده صالح على القانون إلى تصرف غنائى فريد لم تحفل به تسجيلات تلك الرائعة من قبل».
قدمت أم كلثوم فى وصلتها الثانية قصيدة «الأطلال»، ويؤكد «جمال»، أن انسجام الجمهور مع الأداء الكثلومى بلغ أشده، إذ أدتها أم كلثوم بطريقة اختلفت عن المرات التى غنتها من قبل، وتعمدت أن تختبر الجماهير المغربية بتصرفات لحنية غريبة، عمدت إلى تشديد حرف الصاد عند نطقها لكلمة «معصمى»، وهو ما فهمته الجماهير، وهاجت لتلك الرسالة النغمية.
وعند غنائها لكلمة «كم» عادت وضغطت حرف الميم فتعالت الصيحات بشكل أكبر، وأدركت أنها أمام شعب يحفظ أغنياتها حفظا مدهشا، وأن أى تغيير فى بنية اللحن أو الأداء أو أى وقفة غير معتادة تلاحظها الجماهير المغربية على الفور، وعلقت الصحافة المغربية على أداء أم كلثوم لتلك القصيدة فى هذه الليلة بأنه أداء فريد، بل أكدت صحافة «العلم» المغربية أن أم كلثوم أعادت تلحينها مرة أخرى.
أعادت أم كلثوم خاتمة القصيدة مرتين، وأنهت وصلتها الثانية بعد أن دامت اثنتين وسبعين دقيقة، وعقب نهاية الحفل صرحت بأنها كانت مستعدة أن تغنى حتى الصباح بسبب ما لاقته من الجمهور المغربى من تجاوب عجيب، فاق كل التوقعات وتخطى حدود تفاعله مع الغناء للمرة الأولى فى تاريخه الفنى العريق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة