استطاع فريق متخصص من المجلس الأعلى للآثار والمتحف المصرى الكبير، من استخراج التابوت الذى تم اكتشافه خلال مشروع إنشاء المستشفى الجامعي الجديد بمدينة بنها بمحافظة القليوبية، وذلك بعد الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولى بالمشروع وهي حوائط خرسانية لمنع التسرب بكل المستشفى.
استخراج التابوت من موقع الحفائر
والتابوت يبلغ وزنه 35 طنًا، والغطاء يزن 27 طنًا، ليكون إجمالي وزنه 62 طنًا، ويعود للملك بسماتيك الأول، الذى تولى حكم مصر في فترة عصيبة فى عصرها المتأخر، وقاد مصر إلى المجد والقوة والنهضة ثانية، فكانت أشبه بابتسامة مبتسرة قبل أن يتم إسدال الستار على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، وقبل أن تتحول إلى مملكة يحكمها الغرباء، مثل الإسكندر الأكبر وخلفائه من الملوك البطالمة.
التابوت المكتشف فى بنها
ويقول عالم المصريات الدكتور حسين عبد البصير في كتابه "الفراعنة المحاربون.. دبلوماسيون وعسكريون"، بعد أن انتهت الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية للأبد، وبدأت فى التشكل والظهور الأسرة السادسة والعشرون الصاوية المصرية الوطنية تحت حكم الآشوريين حين قام الآشوريون بقيادة ملكهم الأشهر آشوربانيبال بتعيين نكاو أو نخاو، أو نكاو أو نخاو الأول كحاكم على مدينة سايس وابنه بسماتيك الأول كحاكم على مدينة أثريب أو أتريب بالقرب من بنها فى القليوبية فى الدلتا، وقام الملوك الصاويون بفرض سيطرتهم على الدلتا شيئًا فشيئًا كحكام تابعين للآشوريين، وفى عام 664 قبل الميلاد، مات نكاو أو نخاو الأول، فقام الآشوريون بتعيين ابنه بسماتيك الأول كملك على مصر ككل.
خلال استخراج التابوت
وأوضح الدكتور حسين عبد البصير، لم يكن صعبًا على الملك العسكرى والسياسى المحنك بسماتيك الأول أن يسيطر على الدلتا التى جاء منها، خصوصًا أن أمراء الدلتا كانوا ضعافًا وحكامها لم يكونوا يشكلون أية خطورة تذكر عليه وتحديدًا بعد أن مهد له أبوه الحكم أثناء فترة تبعيته للحكم الآشورى، غير أن الصعوبة الحقيقية التى واجهها الملك بسماتيك الأول كانت هى كيفية سيطرته على الصعيد المصرى البعيد عن الدلتا والعصى على السيطرة والاعتراف بحكمه، وتحديدًا مدينة طيبة العاصمة الدينية العريقة ومركز عبادة الرب الأكبر الإله آمون.
بسماتيك الاول
وأضاف كتاب "الفراعنة المحاربون"، أن الملك بسماتيك الأول أثبت أنه سياسى محنك ورجل دولة من طراز رفيع، ففى عام 656 قام بإرسال ابنته الأميرة نيوت إقرت أو نيوتكريس إلى الجنوب، إلى طيبة عاصمة مصر الدينية الكبرى، كى يتم تعيينها كزوجة مستقبلية للإله آمون رب طيبة الأعظم، فى معبد الإله آمون بالمدينة، وكى يضمن السيطرة الدينية ومن ثم السياسية على طيبة وعلى الجنوب وعلى معبد الإله آمون وكهنته المسيطرين ودولته ذات الأوقاف والإقطاعيات والهبات والمؤسسات الاقتصادية القوية والمتحكمة فى الجنوب وفى مصر ككل.
وأشار كتاب "الفراعنة المحاربون"، إلى أن بسماتيك رجل دولة مميزًا حين لم يخلع زوجتى الإله آمون الحاليتين من الأسرة السابقة، أى الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية والتى هرب ملوكها إلى الجنوب، وهما شبن أوبت الثانية وآمون إرديس الثانية، وذلك حتى لا يدخل فى محظور دينى يفقد به ما أراد تحقيقه من تعيين ابنته كزوجة مستقبلية للإله بعد موتهما، وهكذا سيطر بسماتيك الأول على الدلتا أولاً، ثم على الصعيد ثانيًا من خلال تعيين ابنته فى طيبة فى ذلك المنصب الدينى والدنيوى المهم، وكذلك عدم معاداة البيت الكوشى الحاكم دينيًا فى الجنوب أو معاداة نبلاء الجنوب الذين دعموا سيطرتهم وأيدوا سلطانه على الجنوب.
ثم اتجه بسماتيك الأول ببصره إلى خارج الحدود بعد أن أمن دولته فى الداخل، وحاول استعادة أمجاد ملوك مصر السابقين فى الشرق الأدنى القديم، غير أنه وجد أن الأمر يحتاج إلى تكوين جيش قوى حتى يستطيع أن يحقق جولاته وصولاته وانتصاراته معيدًا مجد الإمبراطورية المصرية فى الشرق الأدنى القديم والتى كانت فى عصر الدولة الحديثة، فتوصل إلى فكرة بديعة وهى تكوين جيش من الجنود المرتزقة من بلاد البحر الأبيض المتوسط، فجمع عددًا كبيرًا منهم من الإغريق والكاريين وغيرهم.
ولفت كتاب "الفراعنة المحاربون"، حكم بسماتيك الأول مصر لمدة تزيد على النصف قرن حوالى 54 عامًا، أعاد مصر فيها إلى عصر الاستقرار والقيم الدينية الراسخة فى عقيدة المصريين القدماء، وعلى الرغم من التأثر الكبير بالتأثيرات الوافدة من الخارج فى الفن والتجارة، والتى لم تحدث من قبل، قام ذلك الملك ورجال عهده ومن تلاهم بالنظر إلى آثار الماضى فى عصور الدول القديمة خصوصًا عصرى الدولتين القديمة والوسطى بعين الاعتبار والتقليد الحميد، والذى نعرفه بعصر الرينيسانس أو عصر النهضة الصاوية، حين قام ملوك الأسرة بتقليد فنون ونصوص الفترات السابقة ووضع لمستهم الفنية فى محاولة منهم للالتصاق بمجد الماضى العظيم فى مواجهة ضعف الحاضر الذى كانوا يعيشونه.
وفى عام 653 قبل الميلاد، استغل بسماتيك الأول انشغال ملوك آشور بأمورهم الداخلية، وانسلخ من سيطرتهم، وهم أيضًا لم يهتموا بانفصاله عنهم، نظرًا لشدة الصراع الداخلى على العرش لديهم، وتهديد قوة بابل الصاعدة من الجنوب لهم، فكان لبسماتيك الأول ما أراد، وكان سعيد الحظ، وأخذ لنفسه خطًا مغايرًا فى السياسة الخارجية، وجعل من مصر قوة ضاربة ومهمة ومؤثرة فى منطقة الشرق الأدنى القديم.
وقال الدكتور حسين عبد البصير، كما أن غياب آشور عن المسرح السياسى للأحداث فى الشرق الأدنى القديم، ترك فراغًا سياسيًا كبيرًا فى المنطقة، فظهرت قوى أخرى مثل البابليين تحت قيادة ملكهم الشهير نابوبولاصر، وظهر كذلك الميديون، وظهر أيضًا الساسانيون، وفى الفترة من 629 إلى 627 قبل الميلاد، قام نابوبولاصر بالتحرك جنوبًا إلى جنوب فلسطين حتى دحره المصريون فى أشدود على الساحل الفلسطينى، وتقين بسماتيك الأول من الخطر الحقيقى لمصر لانهيار الآشوريين، لذا ساعدهم ضد البابليين فى عام 616 قبل الميلاد، غير أنه لم تكن لديه قوات كافية كى يقضى على البابليين نصرة ومساندة منه لحلفائه الآشوريين السابقين، غير أن قوى دولية أخرى مكونة من الفرس والساسانيين قامت بمهامجة آشور فى عام 612 قبل الميلاد وقامت بالقضاء على الخط المالك فى البيت الآشوري.