يظل الفتح العربى لمصر واحدًا من أبرز المحطات التاريخية فى حياة المصريين والعرب والدولة الإسلامية، فقد جاء جيش عمرو بن العاص مصحوبا بموافقة الخليفة عمر بن الخطاب، وتمكن من هزيمة الرومان، وذلك فى سنة 20 هجرية الموافق 641 ميلادية، لكن ماذا عن يوميات الحرب، هل تم الفتح فى يوم وليلة، أم أن الصراعات استمرت سنوات؟
نعتمد فى ذلك على كتاب " تاريخ الحركة القومية فى مصر القديمة.. من فجر التاريخ إلى الفتح العربى" لـ عبد الرحمن الرافعى..
يقول الكتاب تحت عنوان "وقائع الفتح العربى"
استولى عمرو بن العاص على رفح فى طريقِه إلى مصر.
فتح العريش دون قتال (12 ديسمبر سنة 639م)
ثم بلغ العريش، ولم تكن بها قوة من الرومان للدفاع عنها، ففتحها دون عناء، وكان ذلك في 12 ديسمبر سنة 639م/10 ذي الحجة سنة 18ﻫ، يوم عيد الأضحى.
فتح الفرما (بيلوز) (2 يناير سنة 640م)
وبلغ الفرما (بيلوز) في يناير سنة 640م، وكانت بلدة محصنة، وفيها قوة من الرومان دافعت عنها، فهزمها العرب وفتحوا البلدة بعد أن حاصروها نحو شهر، وكان استيلاؤهم عليها في أول المحرم سنة 19ﻫ/2 يناير سنة 640م.
واقعة بلبيس (سنة 640م)
واستمر العرب في زحفهم "لا يدافعون إلا بالأمر الخفيف" كتعبير ابن عبد الحكم، حتى بلغوا بلبيس، وكانت بها حامية كبيرة من الرومان يقودهم أريطيون Ariteon فقاوموا العرب مقاومة شديدة، وظلت ممتنعةً نحو شهر، وحدثَتْ فيها واقعة كان النصر فيها حليف العرب وهُزم فيها الرومان، وكان ذلك سنة 640٠م/19ﻫ.
معركة أم دنين
ثم هبطوا قرية أم دنين على شاطئ النيل، وكانت بلدة محصنة وتقع في الشمال من حصن بابليون، وهو الحصن المنيع للرومان، ويجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة.
فقاوم الرومان العرب في أم دنين قدرَ ما استطاعوا، ولكن العرب هزموهم واستولوا على أم دنين بعد مقتلةٍ كبيرة.
وتراجع الرومان إلى حصن بابليون يمتنعون به، وكان موقعه شرقي النيل وتصل إليه السفن.
وأدرك عمرو بن العاص من مقاومة الرومان في أم دنين أن فتح حصن بابليون ليس أمرًا يسيرًا، ولا يكفيه الجيش الذي تحت قيادته، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يستعجل المدد، قبل فتح أم دنين.
فتح الفيوم
وفي انتظار المدد، أرسل يفتح بعض قرى إقليم الفيوم (مايو سنة 640م).
ولما تم لعمرو بن العاص فتح هذه القرى عمد إلى حصار حصن بابليون، فرآه ممتنعًا عليه لكثرة تحصيناته وعلو أسواره ووفرة من فيه من جنود الرومان.
وصول المدد إلى العرب
وفي شهر يونيو سنة 640م، وصل أول مدد أرسله عمر بن الخطاب، وعدته أربعة آلاف مقاتل.
ولما أبطأ فتح حصن بابليون كتب إلى عمر يستمدُّه، فأمده بأربعة آلاف آخرين وكتب إليه عمر بن الخطاب يقول: "إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد."
فصار عدة جيش العرب اثني عشر ألفًا، وقال له عمر في كتابه: "اعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولن تُغلب اثنا عشر ألفًا من قلَّة."
وكان الزبير بن العوام هو الأمير على هذا المدد، وهو ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة.
واقعة عين شمس (يوليو سنة 640م)
بعد أن تلقَّى عمرو بن العاص المدد، اتخذ عين شمس وقتًا ما مركزًا لقيادته، وشرع يستعد لمعركة عين شمس، وكان جيش الرومان بقيادة تيودور القائد العام.
فعول تيودور على أن يسير بعشرين ألفًا من جنوده؛ ليزحزح بهم جند العرب عن عين شمس.
فارتاح عمرو لهذه الحركة؛ إذ رأى فيها فرصة سانحة ليشتبك بالرومان في العراء، بخلاف ما إذا كانوا ممتنعين في حصن بابليون.
فزحف تيودور على عين شمس، فوضع عمرو كمينًا في موضع خفي من الجبل الأحمر (شرقي العباسية الآن)، وآخر على النيل قريبًا من أم دنين، ولاقى تيودور بالفريق الأكبر من الجيش، ونشب القتال (يوليو سنة 640م)، في منتصف المسافة بين الجيشين تقريبًا (في حي العباسية الآن)، وأيقن الفريقان أن على النجاح في هذا الميدان يتوقف مصير مصر.
فحمى وطيس القتال، ولما بلغ أشده خرجت قوة من العرب من الجبل، وانقضَّت كالصاعقة على الرومان، فاختل نظامهم وتراجعوا إلى الغرب نحو أم دنين، فقابلتهم قوة أخرى من العرب، وأصبحوا بذلك محصورين بين جيوش العرب الثلاثة التي سحقتهم سحقًا، فلم يبقَ منهم سوى جزء يسير سار بعضهم إلى النيل، وذهب البعض الآخر إلى حصن بابليون.
حصار حصن بابليون واقتحامه (سنة 640 -641م)
كان هذا الحصن قديمًا، بناه الفرس بعد غزو مصر وسمَّوه باسم عاصمة دولتهم (بابليون)، ثم جدَّده «تراجان» إمبراطور الرومان، فأقام أسواره الضخمة وزاد في بنائه.
وموقعه شرقي النيل (بمصر القديمة، قصر الشمع الآن)، وكان من أمنع حصون الرومان، وفيه جيش قوي منهم.
بدأ عمرو بن العاص في حصار حصن بابليون منذ سبتمبر سنة 640م، في زمن فيضان النيل وأخذ يضيِّق عليه الخناق، وكان قيرس (المقوقس) نائب هرقل بداخل الحصن مع الحامية الرومانية، وقائد الحصن يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج»، ولعله تحريف عن اسم "جورج"، وعدد الحامية الرومانية من خمسة آلاف إلى ستة آلاف مقاتل، ولديه معدات القتال متوافرة.
وكان تيودور Theodore القائد العام للرومان داخل الحصن أيضًا، يتولى القيادة العليا للدفاع عنه.
المفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس
كان قيرس (المقوقس) برغم أنه من الرومان، يميل إلى الصلح مع العرب؛ لشعوره بضعف مركز قومه (الرومان)، وما رآه من توالي هزائمهم أمام العرب في الشام وفلسطين، فخرج ليلة من الحصن وذهب إلى جزيرة الروضة.
وأرسل إلى عمرو وفدًا برئاسة أسقف بابليون؛ لمقابلته واستطلاع رأيه في الصلح.
فقابل الرسل عمرًا وقالوا له: "إنكم قوم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم (الرومان) وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا. فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبتكم ورجائكم."
فلم يبعث عمرو بجواب ما أتوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يروا حال العرب؛ إذ أبيح لهم أن يسيروا في المعسكر العربي ويروا ما فيه.
ثم بعث عمرو برده مع الرسل وقال فيه: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما إن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.»
ففرح المقوقس (قيرس) لعودة الرسل سالمين، وسألهم عما شاهدوه في العرب فقالوا: "رأينا قومًا الموتُ أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم."
وقد رأى قيرس (المقوقس) خطورة الموقف إذا استؤنف القتال، فإن العرب وهذه حالهم من الإيمان والشجاعة لا سبيل إلى ردهم عن قصدهم.
فمالت نفسه إلى الصلح، ورأى العرب تحصرهم حينذاك مياه النيل قبل أن يهبط الفيضان، ثم إذا هبط يتحسن موقفهم ويستطيعون السير أينما شاءوا.
فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي؛ ليتفاوض معهم على ما عساه أن يكون صلحًا.
فبعث عمرو بعشرة رجال أحدهم "عبادة بن الصامت"، وكان أسود شديد السواد، وأمره أن يكون المتكلم في الوفد، وألَّا يجيب الرومان إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث.
فركب العرب السفن إلى جزيرة الروضة، فلما دخل عبادة بن الصامت على قيرس (المقوقس) هابه لسواده وفرط طوله، وقال: "نحُّوا عني هذا الأسود وقدِّموا غيره يكلمني."
فقال العرب جميعًا: "إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيِّدنا وخيرنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله".
فدهش المقوقس من هذا الجواب؛ لأن الرومان قد اعتادوا على التفرقة العنصرية، ودهش من أن العرب لا يفرِّقون بين الأسود والأبيض.
فتكلم عبادة وقال: «إن فيمن خلفت من أصحاب ألفَ رجل أسود كلهم أشدُّ سوادًا مني، وإني بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلةٌ يأكلها يسدُّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة.»
فقال المقوقس لعبادة بن الصامت: "أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولَعَمْرِي ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوةَ لكم به".
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرنَّ نفسك ولا أصحابك؛ أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا أقدمنا عليه إن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرَّ لأعيننا ولا أحبَّ لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذٍ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.٢٥ وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحدنا هَمٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا؛ فانظر الذي تريده فبيِّنه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله ﷺ من قبل إلينا.»
فلما وصل الحوار إلى هذا الحد، أراد قيرس (المقوقس) أن يستنزل عبادة بن الصامت عن شيء، أو يجعله يقبل شيئًا مما عرضه عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفِد صبره، ورفع يديه إلى السماء: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
الهدنة
فاجتمع المقوقس بأصحابه فاختلفوا رأيًا، وكان رأي المقوقس الإذعان وقبول الجزية، وكان الجند يرون المقاومة، وعلى رأسهم جورج (الأعيرج).
ثم طلب الرومان أن يهادنهم العرب شهرًا ليردوا فيه رأيهم، فأجابهم عمرو جوابًا قاطعًا؛ إذ قال لهم إنه لن يمهلهم أكثر من ثلاثة أيام.
استئناف القتال
فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ الرومان في الحصن يستعدون للحرب، وخرجوا إلى العرب فوق أسوار الحصن، فأخذوا جند العرب على غِرَّة، غير أن العرب قابلوا الحرب بالحرب، ووقع قتال شديد بين الرومان والعرب، ارتدَّ الرومان على أثره إلى الحصن.
فعاود المقوقس الحديث عن الصلح، ورأى أن يعيد الاتصال بعمرو بن العاص في شأنه، فعرض عليه أن يختار الجزية، على أن يبعث المقوقس برأيه إلى الإمبراطور هرقل بالقسطنطينية (استانبول)، وأن يبقى الجنود من الطرفين في مواقعهم حتى يرِد الرد من هرقل.
وكانت هذه هدنة قد يطول أمدها.
فسار المقوقس بطريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك بعث برأيه إلى هرقل.
فرفض هرقل الصلح وأرسل يستدعي المقوقس، ولعل ذلك كان في منتصف نوفمبر سنة 640م.
سار المقوقس إلى القسطنطينية (استانبول)، وأصر على رأيه في وجوب الصلح مع العرب، فغضب عليه هرقل، ونفاه من مصر طريدًا.
وجاء الرد إلى مصر قرب نهاية سنة 640، وانتهت الهدنة، وعاد القتال بين العرب والرومان، وهبطت مياه الفيضان وغاض الماء الذي كان يملأ الخندق المحيط بالحصن، فضعف مركز الرومان واستمرَّ القتال بينهم وبين العرب.
وفاة هرقل (فبراير سنة 641م)
وكان حُماة الحصن ينتظرون أن يصلهم المدد من القسطنطينية، فلم يجدوا أثرًا له.
ورأوا أن القدر قد خيَّبَ آمالهم؛ إذ بلغهم أثناء الحصار نبأ وفاة هرقل إمبراطور الرومان، فخارت لذلك نفوسهم.
وكان وفاة هرقل في فبراير سنة 641م/20ﻫ؛ أي قبل فتح حصن بابليون بشهرين.
فتح الحصن عنوة (أبريل سنة 641م)
وبقي الحصن بعد ذلك شهرًا لا يسلِّم، فلما أبطأ الفتح، تقدَّم الزبير بن العوام ووهب الله نفسه، واعتزم أن يقتحم الحصن اقتحامًا.
فجاء إلى الحصن تحت جنح الليل ومعه جماعة من خيرة رجاله الفدائيين، وكان الخندق قد جف ماؤه وطُمَّ جزء منه، فاتفق معهم على أنه سيضع سُلَّمًا على السور ويصعد عليه إلى أعلى الحصن، وواعدهم أن يتبعوه إذا سمعوا تكبيره.
ولما وصل البطل العربي إلى أعلى السور، أخذ يكبِّر وسيفُه في يده.
وتحامل الرومان عليه من داخل الحصن، غير أن السهام أمطرتهم من العرب من الخارج.
واستطاع أصحاب الزبير أن يصلوا فوق السُّلَّم إلى الحصن ويطئوا أسواره بأقدامهم، وتحامل الناس على السُّلَّم، فنهاهم عمرو بن العاص خوفًا من أن ينكسر.
فعندئذٍ أدرك المقوقس أن العرب قد اقتحموا الحصن، ولم يعُد من سبيل إلى ردِّهم عنه، فعرض على عمرو أن يسلِّم الحصن على أن يُؤمِّن مَن كانوا به من الجند على أنفسهم.
فقبِل عمرو هذا العرض على أن يخرج الرومان من الحصن في ثلاثة أيام، ويتركوا ما به من الذخائر وآلات الحرب.
واستولى العرب على الحصن وما فيه، في أبريل سنة 641م/ربيع الثاني سنة 20ﻫ.
فكأنه استمرَّ يقاوم الحصار سبعة أشهر.
فتح سقوط حصن بابليون أمام العرب طريق الإسكندرية، وطريق الوجه القبلي.
فبدءوا بالزحف على الإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذٍ، وسار عمرو بجيشه على الشاطئ الغربي للنيل.
في طريق الزحف على الإسكندرية
كانت أول مدينة فتحها العرب في زحفهم على الإسكندرية هي ترنوط بالشاطئ الغربي للنيل، وأول ما التقوا بالرومان فيها فهزمهم العرب.
ثم استأنفوا السير إلى نقيوس وكانت حصنًا منيعًا، ففتحوها (مايو سنة 641م).
ثم عاد عمرو إلى الشاطئ الغربي للنيل، وتابع الزحف إلى الإسكندرية.
وقاومهم الرومان في كوم شريك فهزمهم العرب، وقاوموهم أيضًا في «سلطيس» جنوبي دمنهور فهزموهم.
ثم صمد لهم تيودور في الكربون، وكانت آخر سلسلة من الحصون التي بين بابليون والإسكندرية، وجرت بها موقعة كبيرة ارتد عن أثرها الرومان إلى الإسكندرية.
وبعد الاستيلاء على الكربون انفتح الطريق إلى الإسكندرية.
حصار الإسكندرية وفتحها (641-642م)
بلغ العرب الإسكندرية وكانت قوة الرومان فيها أكبر من قوتهم في حصن بابليون.
هذا إلى ما كانت عليه الإسكندرية من المنعة، وأسوارها من الضخامة، وحصونها وأبراجها من القوة.
وكان يساعدهم فيها أن عددهم كان وفيرًا، وكانوا على اتصال بالبحر، بخلاف ما كان عليه حماة حصن بابليون.
وكان بها من الجند نحو خمسين ألفًا يقودهم الجنرال تيودور القائد العام.
بدأ حصار الإسكندرية في يونيو سنة 641م، وأخذ عمرو حين قدم الإسكندرية يحمل على أسوارها، فلم ينل منها منالًا.
ورمت مجانيق الرومان من فوق الأسوار على جنده بوابل من الحجارة الضخمة، فارتدُّوا مُبتَعدين عن مدى رميِها وانتظروا حتى يخرج إليهم الرومان من خلف الأسوار، فلم يخرجوا.
ولم يكن الحصار محكمًا على الإسكندرية كما كان الشأن في حصن بابليون، فإن البحر كان يمدها بالحرية والمئونة.
ولم يكن للعرب سفن تهاجم الإسكندرية من جهة البحر.
واستمر حصار الإسكندرية أربعة عشر شهرًا.
وفي سبتمبر سنة 641م عاد المقوقس إلى الإسكندرية، وكان الأمر بنفيه من مصر صار كأن لم يكن بعد وفاة هرقل.
واستمسك برأيه السابق في أنَّ الخير في مُصالحة العرَب.
تسليم الإسكندرية (نوفمبر سنة 641م)
وفي نوفمبر سنة 641م، عُقد الصلح بين عمرو والمقوقس على تسليم المدينة، ومن شروطه عقد هدنة نحو أحد عشر شهرًا، تنتهي في شهر سبتمبر سنة 642م، وأن يبقى العرب في مواقعهم مدة هذه الهدنة ولا يسعوا أي سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكفَّ الرومان عن القتال، وأن يجلو الجنود الرومان عن الإسكندرية بأسلحتهم ومتاعهم وأموالهم؛ وكان جلاء آخر فوج منهم في سبتمبر سنة 642م.
وبفتح الإسكندرية وجلاء الرومان عنها دانت البلاد للفتح العربي، وأذعن الصعيد للعرب دون قتال.
فتح بعض المدن والقرى
منذ واقعة عين شمس وجَّه عمرو بن العاص كتائب من الجند لفتح البلاد المجاورة، ففتحت أثريب (بنها) ومنوف.
وفي أثناء الزحف على الإسكندرية، وحصارها فُصلت كتائب أخرى، وسارت إلى سخا وفتحتها.
ووجَّه عمرو بن العاص كتائب أخرى إلى إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط وتانيس (صان الحجر) وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير، فأخضعوها ولم تحدث مقاومات في معظم هذه البلاد إلا من الحاميات الرومانية.
وكان على دمياط أمير اسمه "الهاموك"، يقال إنه من أخوال المقوقس، استعد لقتال العرب، فلما جاءه المقداد بن الأسود قاتله وقتل ابنه، فانهزم وعاد إلى دمياط، واستشار قومه فنصحه رجل حكيم بمصالحة العرب، فلم يأخذ بنصيحته.
وسُميت بلدة شطا باسم شطا بن الهاموك (وهو ابن آخر للهاموك)، انضم إلى العرب وعاونهم وقُتل شهيدًا في معركة دارت لفتح تانيس.
واستمرت المقاومة في المنزلة إلى ما بعد فتح الإسكندرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة