يبدو الصراع السياسي بين إيران وإسرائيل طويلا وممتدا، حيث يعود إلى وصول رجال الدين إلى السلطة في طهران عام 1979، بينما تمدد الصراع إلى جبهات عدة ولكن لم تصل إلى مرحلة الصدام المباشر، ولكنها قامت على نهج الحروب بالوكالة عبر توظيف الوكلاء الاقليميين في لبنان والعراق واليمن وسوريا، أو بشكل متبادل وغير مباشر أيضا في نطاق العمليات الاستخباراتية الداخلية والخارجية ضد أهداف أو أفراد ينتمون للجانبين.
وبحسب المركز المصري للفكر والدراسات، شهدت الاعوام الـ 15 الماضية، اشتباك الجانبان أيضا في هجمات إلكترونية إما ضد منشآت نووية في إيران أو ضد مرافق في إسرائيل، وهو ما يعني أنه كانت هناك حدود للصراع بين الجانبين التزما بها على مدار عقود.
وهنا تصبح عملية "الوعد الصادق" التي قامت بها إيران مساء يوم 13 أبريل، بحسب المركز، لاستهداف مواقع داخل إسرائيل مّثلت نقطة فارقة بغض النظر عما آلت اليه من نتائج حيث أضحت المرة الاولى التي تستهدف فيها طهران إسرائيل بشكل مباشر في هجمات انطلقت من أراضيها في الداخل، ما يشير في الواقع إلى تحول نوعي في مسار صراع الجانبين
وفي هذا الصدد، تنبغي الاشارة إلى أن حرب السفارات والقنصليات بين إيران وإسرائيل لم تكن شيًئا جديدا. فقد اتهمت إسرائيل إيران أكثر من مرة بـ" التواطؤ" في تفجير سفارتها في العاصمة الارجنتينية بوينس آيرس في مارس ،1992 أي قبل 32 عاًما من اتهام طهران لاسرائيل بالهجوم على قنصليتها في دمشق. وعلى الرغم من حرب الممثليات الدبلوماسية بين الجانبين، فإن طهران وتل أبيب لم تستهدفا بعضهما البعض بشكل مباشر طوال تاريخ صدامهما وصراعهما. ولم يحدث ذلك إلا في عملية "الوعد الصادق".
ويعد الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل بمئات المسيرات والصواريخ تخطيا وتجاوزا لقواعد الصراع والخطوط الحمراء بين الطرفين طوال تاريخ صراعهما الذي يمتد لعقود، فقد كان الصراع بينهما قبل ذلك، كما سبقت الاشارة، ينحصر في عمليات غير مباشرة ينفذها الوكلاء أو تقوم بها استخبارات الجانبين، إلا أن "الوعد الصادق" مثلت تطوًرا نوعًيا في مسار صراع الطرفين ينذر بمرحلة جديدة متطورة للغاية في اشتباكاتهما المستقبلية، حيث قد لا يقتصر الصراع بعد على استخدام طهران للجماعات الوكيلة وضرب إسرائيل لهذه الجماعات في مواقع مختلف بالاقليم.
ولعل وقوع مثل هذه العمليات وذلك الصراع المباشر بين طهران وتل أبيب كان متوقًعا إلى حد كبير في ظل اضطراب معادلة الصراع بينهما بعد انطلاق عملية "طوفان الاقصى".
وفي 7 أكتوبر، 2023 حيث إن التورط الاسرائيلي في غزة واشتباك العديد من الجماعات الموالية لايران في المنطقة في صدامات متتالية ومستمرة يومًيا مع إسرائيل رّجح على الاغلب خيار المواجهة المباشرة بين الطرفين، بغض النظر عن مدى تأثيرها.
وتفتح عملية "الوعد الصادق" الباب واسًعا وتمنح الفرصة لاسرائيل للترتيب لعملية عسكرية مباشرة في الداخل الايراني، على النحو الذي تمثل معه كسًرا إيرانًيا لحاجز الاشتباك المباشر مع إسرائيل الذي لطالما حاولت إيران كثيًرا عدم هدمه. وكان ذلك المبدأ من الاصول الدفاعية الايرانية الثابتة التي تبناها النظام الحالي منذ مجيئه في سبعينيات القرن الماضي. يعني هذا أنه قد أصبح مطروًحا على أجندات وزارتي الدفاع في إيران وإسرائيل إمكانية تنفيذ هجمات عسكرية مباشرة ضد الجانبين في أي وقت.
وهنا، لا يمكن القول إن خيار تكرار عملية عسكرية مباشرة من الجانبين ضد الطرف الاخر أمر صعب؛ إذ أن الصراع بين الجانبين حافل بالتوترات والصدامات التي قد تؤهل وتشجع الطرفين –بعد "الوعد الصادق"– على تنفيذ عمليات ضد بعضهما البعض، خاصة إذا ما أقدمت إسرائيل خلال الفترة المقبلة على الرد على إيران بعد هجومها الاخير.
أي أن واقعية هذا السيناريو ترتبط بالاساس بإمكانية تنفيذ إسرائيل عملية ضد إيران في أي وقت للرد على "الوعد الصادق". وفي هذا الصدد، برزت الاصوات الرسمية في إسرائيل لتؤيد شن هجوم ضد إيران للرد على عمليتها، ويكمن الخالف في الداخل الاسرائيلي فقط بشأن نطاق وتوقيت الضربة. بل إن بعض الاطراف تسمي عملية إيران "طوفان الاقصى 2".
ومن ناحية أخرى، يتوقع بشكل كبير أن تلجأ إسرائيل –في ظل توترات واحتمالات تصاعد الصراع بينهما في أي وقت بالمستقبل- إلى تنفيذ عملية ضد إيران، حتى لو لم تكن للرد على "الوعد الصادق". وبوجه عام، فإن الهجوم الايراني قد كسر القواعد الثابتة للصراع ويعزز بشكل لا لبس فيه من احتمالية تكراره من أحد الطرفين.
وعلى هذا النحو، ينتقل الصراع بين إيران وإسرائيل إلى مرحلة جديدة للغاية وخطيرة، قد تنذر بذلك بوقوع صدامات عسكرية أوسع نطاق بينهما في مرحلة ما في المستقبل، ما يعني أنها مرحلة "اللا عودة" التي لا يمكن معها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وحصر الصراع بين الطرفين في الاشتباكات غير المباشرة التي تتم عن طريق الوكلاء.
وقد تكون إسرائيل أرادت من وراء الهجوم على القنصلية الايرانية في دمشق في الأول من أبريل 2024 هدًفا آخر بعيدا غير الاغتيالات، حيث لم يسبق لاسرائيل مهاجمة قنصلية إيران في إحدى الدول حتى في ظل عقود من الاتهامات الاسرائيلية لطهران بالوقوف ويمكن أن يكون ذلك الهدف هو إدراكها أن إيران سوف ترد على ضربة القنصلية ) التي تعد طبًقا للقوانين الدولية أرًضا إيرانية( بهجوم آخر في الداخل الاسرائيلي، وبالتالي كسر المخاوف الدولية وتشجيع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص للاقدام على مهاجمة إيران عسكرًيا لوضع حد لمخاوفهم بشأن عدة ملفات حساسة في إيران أهمها الملف النووي والصاروخي والطائرات المسيرة.
فحين النظر إلى مدى أهمية الضربة الاسرائيلية على مبنى القنصلية الايرانية في دمشق، سنجد أن إسرائيل وصفته بأنه "مبنى يتبع لـ )فيلق القدس(" التابع بدوره للحرس الثوري الايراني، أو "ثكنة عسكرية" لهذه الوحدة العسكرية الايرانية. وإذا تأملنا جي ًدا في الاهداف التي يمكن لاسرائيل استهدافها داخل المبنى سنجدها هدفين اثنين، هما القادة العسكريين وأبرزهم نائب قائد "فيلق القدس" في سوريا محمد رضا زاهدي، والاسلحة التي قد تكون داخل المبنى بوجه عام.
وإذا عدنا للهدف الاول، سنجد أنه كان بإمكان تل أبيب اغتيال زاهدي أو غيره خارج مبنى القنصلية، مثلما حدث كثيًرا في إطار الصراع بين الجانبين، كما أنه من المنطقي – حين الحديث عن الهدف الثاني- القول إن مبنى مثل قنصلية تابعة للسفارة لم يكن ليحتوي على قدر هائب من الأسلحة يمكنه ان حدث تغييًرا في معادلة الصراع الايراني الاسرائيلي.
وعليه، يبدو أن الهدف الاسرائيلي من هجوم القنصلية كان "الوعد الصادق" نفسه وليس اغتيال "زاهدي" أو قادة عسكريين إيرانيين، وبالتالي كسر الاعراف الغربية القائمة على ترجيح عدم مهاجمة الاراضي الايرانية واستخدام أسلحة أخرى في مواجهة طهران أبرزها العقوبات، ومن ثم تشجيع الولايات المتحدة والاوروبيين على تصفية الحسابات الاخرى مع طهران عن طريق مهاجمة إيران نفسها، بما يعني تغيير استراتيجية الغرب في مواجهة إيران.
ويخدم هذا التغيير الجذري الاهداف الاسرائيلية كثيًرا في مواجهة إيران؛ إذا ترغب إسرائيل منذ سنوات في استخدام الحل العسكري مع بعض الملفات الايرانية أبرزها الملف النووي والصاروخي، ولكنها لا تستطيع ذلك منفردة. ومن ثم، أرادت تل أبيب مشاركة الحلفاء في تحقيق مثل هذا الهدف، إلا أنهم –وعلى رأسهم الولايات المتحدة الامريكية– كانوا رافضين لذلك.
أما مع عملية "الوعد الصادق" واحتمالية الرد الاسرائيلي، فإن خيار اللجوء إلى الحل العسكري من جانب إسرائيل والغرب ضد ملفات بعينها في إيران قد يطرح على الطاولة في المستقبل القريب. بل وحتى لو لم يكن الهدف الاسرائيلي من مهاجمة القنصلية في دمشق هو تحقيق هدف تشجيع الغرب على ذلك، فإن ذلك الخيار المشار إليه أصبح مطروًحا بشكل واقعي على أي حال.
وينبغي التأكيد هنا على أن هذا الهدف الاسرائيلي لا يعني غزًوا أو عملية شاملة ضد إيران، بل يشير إلى احتمالية تشجيع تل أبيب للولايات المتحدة والدول الاوروبية على استخدام الخيار العسكري لمواجهة ملفات بعينها داخل إيران أهمها البرنامج النووي والصاروخي، خاصة بعد وصول المشروع النووي الايراني إلى مرحلة متقدمة للغاية في الوقت الذي تنشغل فيه القوى الكبرى بملفات أخرى أهمها بشكل رئيس أوكرانيا وغزة والتنافس الامريكي الصيني وحالة الاقتصاد العالمي والامريكي، إلى جانب ملفات أخرى مثل الانتخابات الرئاسية الامريكية المقررة في نوفمبر 2024 والتي تؤجل في الواقع اتخاذ الادارة الامريكية الحالية خطوة حاسمة تجاه البرنامج النووي الايراني سواء عن طريق التفاوض أو العقوبات أو غيرها.
يتوقع أن تغير عملية "الوعد الصادق" الايرانية من شكل الصراع الايراني الاسرائيلي عن طريق طرحها على الطاولة لدى الطرفين إمكانية استخدام خيار الهجمات العسكرية المباشرة والمعلنة ضد بعضهما البعض. ويصيغ هذا تساؤًلا بارًزا حول دور الجماعات الوكيلة لإيران في مستقبل الصراع بين طهران وتل أبيب في ظل هذه المتغيرات. كما يضعنا هذا أيضا أمام تساؤلات حول دور القوى الكبرى والاقليمية في محاولة كبح جماح تصعيد إيراني إسرائيلي مسلح خطير سيؤثر بشكل جوهري – إن حدث – على أمن دول منطقة الشرق الأوسط والمصالح الغربية في الإقليم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة