ساقتنى أقدارى السعيدة أمس إلى حضور أمسية شعرية بعنوان ثلاثة "أجيال من الشعراء" قدمها صديقي الشاعر والمثقف النشط محمود جمعة، بمشاركة متميزة وجهد ملحوظ للشاعرة الدكتورة شيماء عمارة.
وقد تألق معظم الشعراء الذين شاركوا في ذلك الحدث الشعري وقدموا مذاقات إبداعية متنوعة بتنوع أجيال الشعراء وتعدد اتجاهاتهم واختلاف طرق تناولهم لتجاربهم الإبداعية وزوايا نظرهم إلى أنفسهم وإلى عالمهم المعيش في لحظتنا الراهنة المرتبكة المأزومة أو المهزومة.
صحيح أن هناك تفاوتا واضحا في مستويات الشعراء الذين استمعت إليهم يعود -بالطبع- إلى الخبرة والتمرس وامتلاك الأدوات والعثور على الصوت الخاص والبصمة الأسلوبية والوعي بدور الشعر هنا والآن، لكن ما يجعلني أثمن ذلك الصنيع -حتى ولو تفاوتت مستويات اختيار المشاركين- هو الدافع الثقافي والإنساني الرفيع الذي يسعى إليه محمود جمعة بكل إخلاص وتجرد لكي يعيد الاهتمام بالشعر والشعراء إلى صدارة المشهد الأدبي مرة أخرى في مناخ ثقافي اجتماعي متراجع انصرف فيه الناس إلى الانهماك في ملاحقة "الصورة المرئية"، بكل تجلياتها الفاتنة تاركين "الكلمة الشاعرة" بكل عمقها الموروث وقدرتها على الفعل والتثقيف وتنمية الوعي المعرفي وإرهاف الحس الجمالي.
لا شك أننا نحتاج إلى الشعر في هذه الأيام الصعبة كحاجتنا إلى الخبز والماء وحاجتنا إلى الضمير الحي والوجدان المشتعل والوعي الناقد.
وأظن أن محمود جمعة بروحه المتقدة وحماسه الذي لا يهدأ للشعر وتشجيعه الدائم للشعراء وبحثه الدءوب عن الموهبين منهم قادر على أن يسهم بنصيب موفور في تحريك المياه الراكدة وإكسابها حيوية البحر وعنفوانه الذي لا يهدأ لاسيما وهو السكندري الذي تعرفت إليه في سياق مماثل لأمسية أمس.
كنت قد ذهبت لحضور أمسية كبيرة خاصة بالشاعر محمود جمعة على كورنيش النيل بالتحرير بصحبة صديقي الشاعر الكبير أحمد بخيت الذي كان متحمسا لتجربة محمود جمعة في شعر الفصحى والعامية.
وإذا بي أفاجأ بالشاعر صاحب الأمسية يفسح مجالا رحبا لأصدقائه من الشعراء - وهم الذاهبون لسماعه- لأن يشاركوا في "حدثه الخاص"!! بإلقاء العديد من قصائدهم.
ساعتها لفت نظري ذلك الصنيع وأدركت أنني إزاء شاعر وإنسان مختلف يتخلى بإرادته التامة ونزعته الغيرية عن نرجسية الشعراء ودورانهم حول أنفسهم، حين نجدهم يفعلون عكس ما فعله محمود، إذ نراهم يشاركون في "أمسيات مجمعة" ولا يهتمون حتى بالاستماع إلى زملائهم من الشعراء الذين يلقون قصائدهم في الأمسية ذاتها،
بل يخرجون للتدخين في الممرات ويتحدثون خارج القاعات، وقد لا يعودون إلى الأمسية بعد انتهائهم من قراءة قصائدهم فيها.
إن قبس محمود جمعة أو درس الشعر الأول الذي يجب أن يتعلمه الشعراء -قبل أن يبدأوا في الكتابة- أن يتجهوا إلى الآخر في إنسانيتهم بقدر التفافهم حول تجاربهم الفردية في قصائدهم؛
لذلك أجدني مدفوعا لتحية محمود جمعة الذي يستعد الآن لتدشين مؤسسة "قبس" التي ستعنى بشؤون الشعر والإبداع والثقافة ،وأوصيه أن يخلص لذلك الصنيع الثقافي النبيل وألا يتنكب عن المضي فيه قدما برغم وعورة الطريق الذي يحتاج إلى تجرد ونزاهة وتضحية بالوقت والجهد والمال.
وأتمنى ألا يجد نفسه مضطرا لترديد مقوله نيتشه على لسان زرادشت: "أجل يا زارا، ولكن النار التي كانت في صدرك لم تكن كافية لإذابة الثلوج التي كانت في صدورهم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة