"لم تكن الحملتان الصليبيتان، الخامسة والسادسة، من الحملات المهمة، ولم تباليا بالجهاد في سبيل القدس، وإنما ذهب أكثر رجالهما إلى مصر طمعًا في الغنائم فاضطرُّوا إلى التقهقر بعد أن أوغلوا قليلًا فيها" يمكن اعتبار هذه العبارة مدخلا لفهم الحملات الصليبية على مصر وقد وردت في كتاب حضارة العرب للكاتب الشهير جوستاف لوبون.
ويقول جوستاف لوبون في كتابه: لم يكن تأثير آداب العرب في الصليبيين صفرًا، بل كان كذلك، ضعيفًا جدًّا، أي استوحاها كثيرٌ من شعراء الغرب وكتَّابهم، فكان سَحَرةُ مصر وعجائب الشرق وغودفروا وتانكريد وغيرهما موضوع قصص مهمٍّ للشعراء المجوِّلين الذين كانوا ينشدونه بين قصر وقصر.
ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيمًا جدًّا بفعل الحروب الصليبية، وأن ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشد منه في العلوم والآداب، وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطرادٍ بين الغرب والشرق، وإلى ما نشأ عن تحاكِّ الصليبيين والشرقيين من النُّمُوِّ في الفنون والصناعة — تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من التوحش، وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربة تُعوِّلُ عليها؛ فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم".
الحملة الصليبيبة الخامسة
فى سنة 1213 استأنف البابا إينوسنت الثالث الدعوة إلى حملة صليبية إلى الشرق، وأرسل وعاظ الحرب المقدّسة إلى أنحاء أوروبا الكاثوليكية، ودامت حملة الوعظ زهاء سنتين، وفى روما فى نوفمبر 1215، انعقد مجمع لاتران الرابع، واتخذ سلسلة من القرارات المبدئية التى تتعلق بتنظيم الحملات الصليبية بشكل عام.
تحددت سنة 1217 موعدًا لبداية الحملة الخامسة، وخطط لها أن تنطق من ميناء برنديسى الإيطالي.
فى سبتمبر 1217 اجتمعت فى عكا لكن لفترة لم يحقق الصليبيون أى جديد، فالجفاف فى السنوات السابقة والمجاعة لعبت دورها كما لعبت الخلافات الداخلية، وتأخرت إنجازات الحملة حتى وصول الفرسان من فريزيا (هولندا) والفرسان الألمان الذين تأخروا فى الطريق لاشتباكهم فى لشبونة فى حرب ضد المسلمين ولم يصلو إلى عكا إلا فى 26 أبريل 1218، حيث كان اندرياش الثانى قد انسحب بقواته منذ يناير من ذات العام اقتناعا منه بعقم المشروع.
وقرر الصليبيون الاستيلاء على دمياط، التى كانت بمثابة مفتاح مصر، ووصلت أولى فصائل الصليبيين إليها فى 27 مايو 1218 واستمر حصارها زهاء سنة ونصف، فى ربيع وصيف 1219 (منهم ليوبولد النمساوي) بسبب الأوبئة وفيضان النيل، ولكن البقية ظلت تحاصر دمياط بعناد، فعانت المدينة الجوع، مما دعى سلطان دمشق للتدخل وعرض السلطان الكامل الذى خلف والده المتوفى حديثًا السلطان العادل فى دمشق، عرض على الصليبيين رفع الحصار عن دمياط مقابل مملكة القدس فى حدود سنة 1187 دون التخلى عن بعض القلاع وعقد صلحًا لمدة 30 سنة لرفع المعاناة وإنقاذ أهل دمياط فى مصر، ومال أغلبية البارونات قبول هذه الشروط، ولكن تدخل نائب البابا، القاصد الرسولى ورفض هذا الأخير العرض.
وفى ليلة الرابع إلى الخامس من نوفمبر عام 1219 احتل الصليبيون دمياط ونهبوها، ولكن فرح النصر كان قصير الأمد، فقد قرر الصليبيون على استكمال الهجوم على المنصورة، فعرض السلطان الكامل سلطان دمشق على الصليبيين نفس العرض الأول ولكنهم رفضوا ثانية، وفى أواسط يوليو 1221 بدؤوا بالهجوم على المنصورة وفى ذلك الوقت بالذات بدأ فيضان النيل فعمل السلطان الكامل بعد هذا الرفض إلى مواجهة الصليبيين فأرسل جيش المسلمين من دمشق وقام بقطع طريق التراجع على الصليبيين وحاصرت قوات المسلمين الصليبيين بأعداد كبيرة فعرفوا بأنهم فى مأزق، فأرسل الصليبيون إلى السلطان الكامل فى دمشق طالبين الصلح معه، وقبل الكامل الصلح إدراكًا منه بخطر المغول، وإنقاذًا لمدن مصر من بطش الصليبيين، ووقع الصلح فى 30 اغسطس 1221 لمدة 8 سنوات، وكان على الصليبيين مغادرة دمياط، ونفّذ الصليبيون ذلك فى أوائل سبتمبر من نفس العام ومنيت الحملة الصليبية بالفشل.
الحملة الصليبية السادسة
كانت الحملة السادسة (1228- 1229ميلادية) موجهة إلى بيت المقدس، حملة صغيرة لا يتجاوز عدد رجالها الـ600 فارس فقط، والأعجب أنها جاءت استجابة لرغبة السلطان محمد الكامل الأيوبى نفسه، وباتفاق وتفاهم بينه وبين فريدريك الثانى، إمبراطور ألمانيا ومملكة الصقليتين صقلية ونابولى.
ووفقا لدراسة بعنوان "الحملة الصليبية السادسة (626ــ627هـ /1228 ــ1229م)، للدكتور د. مقاديم عبد الحميد، بجامعة وهران الجزائرية، فكان موقف الإمبراطور الألمانى فردريك الثانى 1215 ـــ 1250م مختلفا فقد أبدى استعدادا واضحا للاستفادة من هذه الروح السلمية البادية فى موقف السلطان الكامل الأيوبى ويرجع السبب فى ذلك إلى فردريك الثانى نفسه إذ لم يكن صليبيا مثل غيره من ملوك أوروبا الذين قادوا الحملات الصليبية، لقد كان هذا الإمبراطور الذي عرف باسم أعجوبة الدنيا صقليا تربى فى ظل مظاهر الحضارة العربية الاسلامية التي فرضت نفسها فى كل مكان من جزيرة صقلية التى نشأ فى أحضانها.
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك: كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء.. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي - في زمن حصار دمياط - الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة فى المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول: "تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما تقدم بينهما من الاتفاق"، ومن هنا أراد الكامل أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك.
وأدرك الإمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر، ولم يبق للإمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، غير أن السلطان الكامل بادله بالرفض.
وساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: "أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء"، واستمر الإمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطافات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير على الكامل.
وأثناء ذلك شرع فردريك الثاني في عمارة صيدا وقام بتحصين يافا، وكان ذلك بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: "إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته". وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم: (الصليبيين، وابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية)، وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس.
ما ذكره المؤرخون الأجانب عن فشل الحملتين الخامسة والسادسة
يقول المؤرخ البريطاني جون جوليوس نورويش في كتاب الأبيض المتوسط تاريخ بحر ليس كمثله بحر والذى ترجمه طلعت الشايب:
كان هناك إجماعٌ على أن تكون مصر هي الهدف مرة أخرى؛ فهي الإقليم الأغنى والأكثر تعرضًا للهجوم في إمبراطورية صلاح الدين.
ويضيف: كان القتال طويلًا وضاريًا، وعندما هبط الليل انسحب الجيش المصري على جسر العوَّامات الدائم إلى دمياط ومثلما حدث في 1219، تم تحويل المسجد الجامع إلى كاتدرائية، واستقرت التشكيلات العسكرية الرئيسية الثلاثة (فرسان الهيكل والإسبتارية والفرسان التيوتون) في أماكن إيواء مريحة، كما خصَّص لكلٍّ من أبناء جنوة وبيزا ولأبناء فينيسيا كذلك (وهذا هو الأكثر مدعاةً للاستغراب) شارعًا وسوقًا وأصبحت دمياط، باختصار، العاصمةَ الفعلية للشرق اللاتيني.
إلا أنه سرعان ما بدأت المشكلات في الظهور وكان فيضان النيل السنوي وشيكًا ولأن لويس كان يعي تجربةَ الحملة الخامسة، أصر على عدم التقدم إلا بعد انحسار الماء، وهو ما يعني أن جيشه كان عليه أن يبقى خاملًا أثناء قيظ الصيف كله. بدأت مؤن الطعام في النفاد وظهرت الديزنطاريا والملاريا في المعسكر؛ ومثل أبيه من قبلُ عرض سلطان مصر الأيوبي الذي كان يموت من السل من على فراش مرضه مبادلةَ دمياط بأورشليم..
لم يكد الجيش يقطع ثلثَ المسافة إلى العاصمة تقريبًا، حتى وجد نفسه في مواجهة جيش المسلمين عند المنصورة، وهي مدينة كان السلطان قد شيَّدها قبل سنوات قليلة في موقع انتصاره على الحملة الخامسة. ثم كانت كارثة، وكانت الكارثة في جملتها غلطة الكونت «روبير أرتوا" ، كان قد تحدَّى تعليمات أخيه الصارمة بعدم القيام بالهجوم إلا عندما يتلقَّى الأمر بذلك، وقام يتبعه فرسان الهيكل وفرقة صغيرة من إنجلترا، بالهجوم على المعسكر المصري، ليفاجِئ مَن فيه ويذبح عددًا كبيرًا منهم ويجبِر مَن بقي على الفرار. لو أنه كان قد توقَّف عند ذاك الحد، فلربما كانت قد سارت الأمور على ما يرام، ولكن المعسكر كان يبعُد عن المنصورة نفسها نحو ميلين تقريبًا، فاندفع بقوَّاته مزهوًّا بالانتصار ليدخل المدينة. هذه المرة كان المصريون مستعدين له. كانت أبواب المدينة مشرعة، ووجد روبير ومَن معه الطريقَ سالكة حتى أسوار القلعة. هنا فقط ظهر المدافعون وانقضُّوا عليهم من الشوارع الجانبية، غلِّقت الأبواب، وكانت مذبحة. روبير نفسه لقي حتفه مع معظم فرسانه، وكذلك كل الإنجليز تقريبًا، أما فرسان الهيكل المائتان والتسعون فلم يتبقَّ منهم على قيد الحياة سوى خمسة.
لم تضَع هذه الكارثة نهايةً حاسمة للحملة ففي بداية أبريل ١٢٥٠م فحسب، كانت الديزنطاريا والتيفود يفتكان برجاله أكثرَ مما يحدِثه المصريون بهم، كان أن قرَّر لويس العودة وكان هو الذي يعرض مبادلةَ دمياط بأورشليم، ولكن السلطان توران شاه وكان قد خلف أباه أيوب قبل نحو ثلاثة أشهر لم يكن مهتمًّا بالأمر وكانت رحلة العودة كابوسًا لمن كان يستطيع أن يركب حصانًا أو يمشي على قدميه، وأخيرًا عندما وجد قائد حرسه الشخصي أنه لم يكن يستطيع السيرَ أكثر من ذلك، أخذه إلى منزل قريب، ولكن سرعان ما اكتشف المصريون مكانه فأخذوه مقيدًا إلى المنصورة حيث تماثل للشفاء ببطء.
وحصل المصريون على فدية إلى جانبِ عودة دمياط نفسها، التي دُفعت مقابل حرية الملك، تم الاتفاق على أن يتسلم المصريون مبلغ نصف مليون جنيه وكانت صفقة صعبة، وما كانت لتتم لولا الملكة مارجريت كانت قد بقيت في دمياط حيث وضعت مولودها بسلام بمساعدة أحد الفرسان الذي قام بدور القابلة، وكان في العقد التاسع من العمر بعد ثلاثة أيام فقط من تلقيها خبر الاستسلام وأطلقت على وليدها اسم «جون تريستا John Tristan» (أي طفل الأحزان) ثم كانت ضربة مزدوجة؛ كان الخبر بأن مخزون الغذاء كان قد بدأ في النفاد بسرعة، وأن أبناء بيزا وأبناء جنوة كانوا قد بدءوا يغادرون المدينة.
قامت مارجريت باستدعاء قادتهم إلى جوار فراشها، لتتوسَّل إليهم أن يبقَوا، مشيرةً إلى أنها لن تستطيع الإبقاءَ على دمياط بدونهم، وفي حال سقوطها لن يكون لديها ما يمكن أن تفديَ به زوجها. لم يوافقوا على البقاء إلا بعد أن عرضت شراء كلِّ ما تبقى في المدينة من غذاء، وجعلت نفسها مسئولة عن توزيعه. كانت التكلفة باهظة، ولكن دمياط نجت إلى أن تم تدبير الفدية في آخر الأمر تم تسليمها في السادس من مايو 1250، ودفع فرسان الهيكل بقيةَ المبلغ فيما بعدُ على مضض.
بعد أسبوع، أقلع لويس ومَن كانوا يستطيعون المشي إلى عكا. أما المرضى بشدة والجرحى ومَن لا يستطيعون السفر، فبقُوا في دمياط على وعدٍ بتوفير رعاية جيدة لهم. بمجرد أن غادرت السفن الميناء، تم إعدام الجميع.
خلقت الحملة الصليبية السادسة الفاشلة حالةً من الفوران في العالم الإسلامي. كان معظم القوة الإسلامية المحارِبة من المماليك، مجموعة كبيرة من الجند غالبيتهم من الجيورجيين أو الشراكسة الذين تم شراؤهم عبيدًا وهم أطفال في القوقاز وتم تدريبهم كخيَّالة. كانت قوَّتهم ونفوذهم تتزايد باطراد إبَّان حكم السلطان أيوب، وبعد وفاته في نوفمبر 1249 حاول توران شاه أن يحجم قوَّتهم. كانت غلطة فادحة. في الثاني من مايو 1250، كان يقيم مأدبةً لأمرائه، وما إن همَّ بمغادرة المكان حتى اقتحمت القاعةَ مجموعةٌ من المماليك وهجمت عليه. أصيب بجروح بالغة، ولكنه تمكَّن من الفرار وألقى بنفسه في النيل، ولكنَّ قائدًا مملوكيًّا يُدعى بيبرس تبِعه ليجهز عليه، ومعه انتهت الأسرة الأيوبية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة