تبدو الغارة الإسرائيلية الأخيرة، والتى استهدفت المطبخ العالمى، وهو منظمة خيرية غير حكومية تعمل على توفير المساعدات الغذائية لسكان غزة، بمثابة حلقة جديدة، من الانتهاكات المتواترة التى ارتكبها الاحتلال، منذ أكتوبر الماضى، بينما تمثل فى الوقت نفسه انعكاسا صريحا للمخططات الرامية إلى إحكام الحصار على القطاع، بهدف إجبارهم على ترك أراضيهم، وهو ما يمثل الدوران فى نفس الحلقة التى تدور حولها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والتى تقوم على أن الهدف الرئيسى من العدوان تتجسد فى إخلاء الأرض من سكانها، وبالتالى تقويض القضية الفلسطينية، وذلك إذا ما وضعنا فى الاعتبار الدعوات الصريحة التى أطلقتها عناصر بارزة فى الحكومة، من جانب، والاستهداف الممنهج للمدنيين ومنشآتهم، بعيدا عن الفصائل الفلسطينية، والتى تمثل الهدف المعلن للاحتلال، منذ أحداث طوفان الأقصى.
إلا أن ثمة جانبا آخر، يبدو بحاجة إلى الالتفات إليه، عند تناول الخطوة الدموية الجديدة التى ارتكبتها الدولة العبرية، فى غزة، والتى تضاف إلى سجل مشين من الانتهاكات، تجسد فى استهداف المستشفيات والمنازل ودور العبادة وغيرها، يتجسد بجلاء فى التداعيات الكبيرة المترتبة عليها، على المستوى الدولى، فيما يتعلق باختراق كافة المعايير الإنسانية التى وضعها العالم المتحضر على كاهله، منذ عقود طويلة من الزمن، والتى انكشفت بصورة كبيرة خلال الكثير من المشاهد، التى ارتبطت بالأذهان، منذ بدء العدوان، دون حراك دولى ملموس، وهو ما بدا منذ اليوم الأول للعدوان عندما سعت الدولة العبرية لحشد الجهود الدولية، من أجل منع تمرير المساعدات الإنسانية للقطاع وسكانه، وهو ما تمكنت الدبلوماسية المصرية من التصدى له، من خلال تحقيق توافق "عابر للأقاليم" من خلال قمة القاهرة للسلام، والتى تزامن معها دخول أول شاحنة إغاثية للقطاع، فى انتصار صريح للدولة المصرية.
الاستهداف الإسرائيلى للمساعدات المقدمة لسكان غزة، لا يقتصر فى جوهره على إعاقة وصولها، وإنما فى استهداف صريح للمنظمات العاملة فى هذا الإطار، وهو ما يبدو، على سبيل المثال فى المحاولات المستميتة، من جانب حكومة نتنياهو، لتقويض دور منظمة الأونروا، رغم حساسية الدور الذى تقوم به، سواء خلال العدوان، أو على مدار عقود، حيث أنها تساهم بدور كبيرة فى توفير فرص عمل للفلسطينيين، ناهيك عن تقديم خدمة التعليم، بالإضافة إلى ما تقدمه معونات غذائية، تمثل أهمية قصوى خاصة فى اللحظة الراهنة، فى ضوء ما يتعرض له سكان القطاع من حصار وقصف، قتل آلاف البشر معظمهم من النساء والأطفال.
وهنا يصبح استهداف منظمة المطبخ العالمى، بمثابة وجه آخر للعداء بين الدولة العبرية وحكومتها الحالية، من جانب، والمنظمات العاملة فى مجال الإغاثة الإنسانية، فى ضوء ما تمثله تلك الهيئات من تهديد، للمخططات التى تتبناها، والتى تقوم فى الأساس على إغلاق كافة المسارات أمام الفلسطينيين للبقاء على أراضيهم، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها أن الأهداف المعلنة للعدوان، ليست فى واقع الأمر أكثر من مجرد غطاء لأهداف أخرى، يتصدرها التهجير، وما يؤول إليه من تصفية للقضية الفلسطينية.
إلا أن الهجوم لا يقتصر فى تداعياته، على مجرد الامتعاض الدولى، والذى حمل طابعا شكليا لشهور طويلة، جراء الانتهاكات الإسرائيلية، وإنما يمتد إلى علاقة إسرائيل بحلفائها، خاصة وأن الهجوم الأخير قتل عددا من أصحاب الجنسيات الغربية، بين بريطانيين، وبولنديين واسترالى، وبعضهم يحمل الجنسية الأمريكية، بل وأن مقر المنظمة الرئيسى يقع فى الولايات المتحدة مما ساهم فى زيادة حدة الانتقادات التى تواجهها الحكومة الإسرائيلية، وهو ما بدا فى الإدانات التى أطلقها عدد كبير من مسؤولى الدول المذكورة.
وفى الواقع، يبدو توقيت الهجوم، والذى يأتى فى ظل ضغوط دولية، وفى القلب منها من الحلفاء الغربيين، وبعد أيام من قرار مجلس الأمن الدولى بوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان، دون مساندة من أقرب الحلفاء، وهى الولايات المتحدة، التى سبق لها استخدام الفيتو لتقويض قرارات مماثلة، فى أكثر من مناسبة منذ بدء العدوان، ناهيك عن الحديث المتواتر، فى العديد من أروقة المعسكر الغربى، حول أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية حاملا فى طياته طبيعة انتقامية، وهو ما يكشف وجها عدائيا جديدا للاحتلال الذى آثر استعداء جميع أطراف المشهد الدولى، فى اللحظة الراهنة.
وهنا يمكن القول بأن الهجوم على المطبخ العالمى، وإن كان فى واقعه انتهاكا إنسانيا جديدا، إلا أنه يمثل فى اللحظة نفسها، حلقة جديدة من مسلسل تراجع الدعم الدولى للدولة العبرية، فى ظل ما يمثله من تحد أو بالأحرى مواجهة صريحة مع الحلفاء الغربيين، وذلك بعد تغييرات جذرية فى مواقفها إذا ما قورنت بلحظة بدء العدوان على غزة، والتى دعمت فيها دول المعسكر الغربى الاحتلال تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة