كانت سيدة الغناء العربى أم كلثوم تستعد للسفر إلى أمريكا يوم 11 مايو 1953 لتلقى علاج مرضها بالغدة الدرقية بمستشفى القوات البحرية، وكان جمهورها وكل المحيطين بها من شعراء وموسيقيين ومسؤولين على قلق مما قد يصيب صوتها بأى مكروه، وكان الشاعر أحمد رامى ممن قلقوا عليها، ولأن شعره عاصر صوتها الساحر منذ بداياته فى القاهرة، استضافته مجلة الكواكب فى حوار نادر، ليتحدث عنها، ونشرته فى عدد 91 الصادر فى 28 أبريل، مثل هذا اليوم 1953.
قال «رامى» عن رأيه فيها: «سبق أن شرحت رأيى فى أم كلثوم فى حفل أقيم لتكريمها عام 1932 بقصيدة أجتزئ منها هذه الأبيات: رنة العود شدوها وصداها/ جنة الناى أو أنين الكمان/ خلقت آهة فكانت عزاء/ من هموم الحياة والأحزان/ وجرت دمعة فكانت/ شفاء للمعنى، ورحمة للعانى/ وسرت آنة فكانت غناء/ يطلق الروح فى سماء الأمانى».
وعن بداية علاقته معها، كشف «رامى»: «كنت فى باريس ما بين عام 1922 و1924، فلما عدت إلى القاهرة كانت أم كلثوم قد سبقتنى إليها مع والدها المرحوم الشيخ إبراهيم وأخيها خالد، وبدأت تغنى القصائد فى الحفلات، وسمعت عنها حينئذ من المرحوم الشيخ أبوالعلا محمد الذى كان يتعهدها من الناحية الفنية، ودعانى للاستماع إليها فى حفلة أقيمت فى كشك الموسيقى الذى كان يقع فى حديقة الأزبكية.
سمعت فى ذلك المساء أم كلثوم تغنى إحدى القصائد التى حفظتها من الشيخ أبوالعلا ومطلعها «الصب تفضحه عيونه/ وتنم عن وجد شؤونه/ أنا تكتمنا الهوى/ والداء أقتله دفينه/ يهتاجنا نوح الحمام/ وكم يحركنا أنينه»، وقد أخذت بذلك الصوت الملائكى، وذلك الإلقاء المرن الجذاب حتى إننى لم أتمالك نفسى من البكاء، وكانت أم كلثوم رغم صغر سنها وقلة محصولها اللغوى تنطق بألفاظ القصيدة، وكأنها تشربت معانيها، وعندئذ فكرت فى أن أنظم أغانى خاصة بالشعر الدارج، تكون أنسب لسنها وجمال صوتها، وفى تلك الأثناء كانت أغانى الشعر العامى من النوع الخليع، فأوحى إلى صوت أم كلثوم أن أنظم أغنية تسمو بمعناها عن ذلك المجون، وكانت أول أغنية وضعتها لها «خايف يكون حبك لى شفقة على».
طلبت «الكواكب» من «رامى» أن يرسم صورة لها كما يعرفها، فقال: «أم كلثوم فنانة تحتوى بين جنبيها على طاقة ضخمة من الإحساس بالفن، فهى لا تردد الألحان عبثا، ولكنها خبيرة بخفايا النغم وخبايا الجمال فيه كما لو كانت تختزن فى ذوقها معيارا دقيقا لا يخطئ، وأذنها حساسة لدرجة أنها تحفظ أصعب الألحان وأفصح الشعر إذا سمعته مرتين وراق لها، وهى عادة تسمع الملحن لأول مرة وهى صامتة ساكنة إلا من هزات تتجاوب فيها نفسها للجميل منه، ثم تقول له: «سمعنى كمان مرة»، وهى تغنى معه بصوت خفيض لا يكاد يسمع، ثم تقول: «كفاية.. اعزف انت وأغنى أنا»، وعندئذ تسمع منها العجب العجاب».
يكشف «رامى»: «يخطئ من يظن أن أم كلثوم لا تعرف حرفية الموسيقى، فقد درست مبادئها على يدى الشيخ أبوالعلا، وكانت فى سنة 1926 تغنى فى دار التمثيل العربى، وتعزف فى الوقت نفسه مع التخت على العود، وهى تعرف الثمين والغث من الألحان وترد أخطاء المخطئين فى الموسيقى، وقد وهب الله أم كلثوم مع صوتها الذهبى موهبة أخرى، هى القدرة على التذوق، وذوقها لا يخطئ أبدا، لا فى دنيا الغناء فقط، ولكن فى كل شىء من شؤون الحياة، حتى فى الشعر والأدب، كنت أحيانا أقرأ على مسمعها قصيدة لتختار ما تحب أن تغنيه، فنستمع إلى القصيدة فى صمت يستوعب كل ما فيها، ثم نختار فى النهاية نفس الأبيات التى أحس أنها أجزل ما فى القصيدة وأجملها معنى وأسلسها لغة».
يستكمل «رامى» رسم صورته لأم كلثوم، قائلا: «يظهر أن للتذوق علاقة بالبديهة، فبديهة أم كلثوم حاضرة متحفزة على الدوام، تتذوق النكتة الجيدة، وتطلقها خفيفة الدم، ولا يعيبها الرد على الدعاية ببديهتها السريعة المتوفرة، حدث أن كانت تغنى فى حفلة أقامها نادى القضاة فى فندق سميراميس، وكانت الحفلة ساهرة راقصة، فقال لها أحدهم: «تيجى ترقصى معايا»، فقالت على الفور: «لا.. أنا حأرأس الجلسة»، وذات يوم سألتها، قائلا: ما شفتيش المعلم دبشة؟» فقالت بسرعة: «لا والله.. ما عترتش فيه»، والمعلم دبشة كان دائم الحضور لكل حفلاتها».
يضيف «رامى»: حدث أن زارها أحد أصدقائها من ذوى الشحم واللحم والوزن الثقيل فى غرفتها بالمسرح أثناء إحدى الحفلات، فلما تأهب للانصراف قالت له: «على مهلك وانت خارج أحسن الأرض تقب».
ويستمر حوار رامى ليكشف أسرارا أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة