نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ ما قاله فى تفسير سورة ق فى "الآية الـ 19" (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
قوله تعالى: وجاءت سكرة الموت بالحق أي: غمرته وشدته فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده، وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلى دار الحق فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ، لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين، وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى ; أي: جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت، وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت ، ذكره المهدوي، وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت، فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث، قال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وذكر الحديث، والسكرة واحدة السكرات، وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده، خرجه البخاري، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة، وقال عيسى ابن مريم: " يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة " يعني سكرات الموت، وروي: ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ).
ذلك ما كنت منه تحيد أي: يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه، يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل، وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق، وتقول في الإخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه قال طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة