كان الشيخ سيد درويش، باعث الحركة الموسيقية الشرقية، ورائدها الموسيقية الشرقية الأول في القرن العشرين، وتأثيره لا يمكن حصره في الأثر الذي تركه لدى معاصريه والأجيال المقبلة فقط، بل يمتد إلى إحداث ما يسمى بحق "نهضة موسيقية مؤثرة"، ومدرسة عربية جديدة في الموسيقى، لكن قبل الشيخ سيد بالتأكيد كانت هناك محاولات، وكانت هناك نواة سار عليها صاحب "أنا هويت" حتى خرجت أول بذرة موسيقية شرقية، وسبقه في القرن التاسع عشر، المطرب عبده الحامولي.
ينتمي عبده الحامولي (1836 - 1901) بالتأكيد إلى القرن التاسع عشر، وكان هو سيده الموسيقي بامتياز، فلم يعرف ذلك القرن في مصر مطربا وموسيقيا بنفس تأثير "الحامولي" ويكفي أن تأثيره وصل إلى عظماء جاءوا من بعده تأثر بهم فيما بعد الشيخ سيد درويش، أمثال صالح عبد الحي وسلامة حجازي.
الموسيقي قبل عبده الحامولي
بالتأكيد كان الغناء والموسيقى موجودان في مصر منذ التاريخ القديم، لكن ربما بشكله الحديث الارتجالي لم يظهر إلا يد شاكر أفندي الحلبي الذي جاء إلى مصر في المائة الأولى بعد الألف، وكان مفهوم التلحين في ذلك الوقت مجهولا حسبما يذكر الكاتب جورجي زيدان في كتابه "تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الثاني)" فنقل إليها "شاكر" فنقل جملة تواشيح وقدود، وهي أشكال التلحين التي كانت موجودة في حلب، وظلت هذه الطريقة مستمرة لا تتغير إلى أن جاء عبده الحامولي.
البداية غنى "الحامولي" كما وجد قواعد الغناء في عصره والعصور التي سبقته، لكنه بموهبته الفطرية خرج عن المألوف وبدء يتصرف في حدود موهبته في الجمل اللحنية مع المحافظة على الأصل وعدم الخروج عن دائرته، فأزال عنها بعض الجفوة التي كانت قد أصابت أشكال الغناء بسبب عدم التجديد فيها لقرون.
إلى أن سافر إلى الأستانة في تركيا التي بعثه إليها الخديوي إسماعيل لكي يزيد من موهبته في الغناء، حيث كان انضم إلى القصر وأصبح مطرب والي مصر، فهناك استمع إلى الآلات الشرقية ونهم مفاهيم جديدة في الغناء والتلحين وأخذ ينتقي منها ما يلائم المزاج المصري ويناسب الطريقة العربية، ورأى المجال واسعًا له في الموسيقى التركية؛ إذ وجد فيها كثيرًا من النغمات التي لم يكن للمصريين علم بها ولم تطرق آذانهم من قبل؛ مثل النهاوند والحجاز كار والعجم وغيرها، فنقلها إلى الغناء المصري.
من الهجوم إلى التقدير
لم يكن تاريخ أي موسيقي مفروش بالورود خاصة لو كان من المجددين، سيد درويش رفضوا ما يقدمه في البداية إلى أن عرفوا قيمته، وأصبح الباعث الموسيقي، موسيقار محمد عبد الوهاب، هاجموه لأنه خرج عن قواعد الغناء الذي كان عليها عصره، وفى النهاية أصبح الرمز الموسيقى الأكبر في القرن بعد "درويش" لكن بالعودة إلى الوراء نجد أن عبده الحامولي لاقى من الهجوم والرفض لما يقدمه من تجديد في الموسيقى الشرقية وصل إلى حد الاتهام بالزندقة الفنية إلى أن حصل على التقدير الذي يستحقه.
يذكر الباحث المتخصص في المجال الموسيقي قسطندي رزق في كتابه "الموسيقى الشرقية والغناء العربي" أن الموسيقى الشرقية عندما ظهر الحامولي كانت مقصورة على أمهات المقامات وبعض ما تفرَّع عنها مما يقارنها ولا يشرد عنها، إلى أن جاء عبدها الحامولي بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها مضيفًا إليها ما عَنَّ له من النغمات تمشيًا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروحٍ مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربًا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة، ويشوّهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس، فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعًا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال.
لم يقوم الحامولي بمجرد تهذيب للتواشيح وفن القدود الحلبية التي تلقاها فقط، بل مزج بينها وبين النغمات المصرية والتركية، وصاغها بهوية مصرية عربية، فكان أول من مهد للموسيقى الشرقية العربية الخاصة، والمجدد المصري الأول، ونجح بموهبة وذكاء بأن ينال استحسان موسيقيي عصره بعدما كانوا ينفرون منها ولا يرتاحون إلا إلى نغمات الأنين والتوجع التي اقتصروا عليها في محيطهم الضيق.
الغناء موهبة فذة لم تتكرر
تمتع عبده الحامولي بصوت قوي واسع المجال، وشديد الجاذبية والتأثير، ويصف الموسيقار أسامة عفيفي في دراسة عن "الحامولي" أن الأخيرو كان يؤدي أدواره بالأسلوب التقليدي الذي يبدأ من قاعدة المقام متدرجا في الصعود إلى مناطق صوتية يصعب يعلى أي مطرب الوصول إليها، ويقال إن صوت الحامولي تجاوز أعلى طبقة في آلة القانون المعروفة بارتفاع طبقاتها عن الصوت البشرى.
التأثير
مات عبده الحامولي في العام الأول من القرن العشرين 1901، لكن أثره امتد إلى الأجيال التي تلته، وقامت من بعده مدرسة عظيمة في الموسيقى العربية كان هو أول من بني عليها تلحين الأدوار، إلى أن ظهر الشيخ سيد درويش عام 1917 وانتقل تلحين الدور من القالب الطربي إلى القالب التعبيري، الذي انتهجه أيضا زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب لاحق، ثم تطور إلى القوالب الأحدث مثل المونولوج والديالوج وصولا إلى الأغنية الحديثة.