عندما أطلق الحاكم بأمر الله يد جنوده لإعمال الفوضى في مدينة الفسطاط، كان يشاهد جيشه من فوق هضبة المقطم وهم يعملون السيف في أجساد المصريين العزل ويحرقون بيوتهم ويأتون على الأخضر واليابس، بعدما يسبون النساء والأطفال الهلعين خوفا.. كان يرى المدينة من مكانه البعيد تحترق وينتظر من السماء كلمة أو إشارة ما.. وكان معروفًا أنه يُجل المقطم ويتخذه مكانًا لخلواته وتأملاته وتصوراته التي تحمل لبنة دين جديد أراد بسطه على الرقاب والعباد.
قبل الحاكم بأمر الله كان جده المعز لدين الله الفاطمي يسأل بابا الأقباط أبرام بن زرعة معجزةً استنادًا لآية 17 من إنجيل متّى "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم".
الروايات المسيحية تقول إن السيدة مريم العذراء تجلت للبابا ودلته على سمعان الخراز "الإسكافي" الذي على يده ستتحقق المعجزة، إذ إن البابا ذهب ومعه سمعان وبعض الأساقفة والشعب إلى المعز وأبدوا استعدادهم لتنفيذ الأوامر، وعليه ذهبوا هناك فصلى البابا وسجد من معه وهم يرددون "يا رب ارحم" بدأ الجبل يتحرك فوقع الخوف في قلوب الحاضرين إلى أن قال المعز للبابا "أمان يا بابا".
قدسية هضبة المقطم عند المصريين كجبانة اتخذت مكانتها في الوجدان الشعبي المصري عند المسيحيين والمسلمين قبل ذلك التاريخ بعقود، إذ تتفق أغلب الروايات الإسلامية على واقعة دارت بين المقوقس عظيم القبط وعمرو بن العاص أيام الفتح الإسلامي لمصر تؤكد تلك الخصوصية والمكانة.
محاولة شراء المقوقس المقطم من عمر بن العاص
تقول الحكاية التي أوردها المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار الخطط المقريزية" وابن تغري بردي في مؤلفة الموسوعي "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة": إن المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيع جبل المقطم بسبعين ألف دينار، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فرد عليه الخطاب قائلا: سله لماذا أعطاك فيه وهو لا يزرع ولا يُستنبط منه ماء؟ فعاد عمرو بن العاص وسأل المقوقس عن ذلك، فقال: إنا نجد صفته في الكتب القديمة أنه يدفن فيه أغراس الجنة.
فكتب بذلك عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين قائلا: "أنا لا أعرفُ غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاجعلها مقبرة لمن مات قِبَلَكَ من المسلمين ولا تبعه بشيء".
أسباب محبة الله لجبل المقطم
الروايات المسيحية نقلت إلى الروايات الإسلامية اعتقادًا بأن جبل المقطم كأن أكثر الجبار أنهارًا وأشجارًا ونباتًا، فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسي عليه السلام، أوحي إلى الجبال: أنًّي مُكَلَّمٌ نبِيًّا من انبيائي على جبل منكم.. فتطاول كل جبل وتشامخ، إلا جبل طور سيناء، فإنه تواضع وتصاغر، فأوحي الله سبحانه وتعالي إليه: لم فَعلت ذلك – وهو به أعلم – قال: إجلالا لك يا رب! فأوحي الله تعالى إلى الجبال أن يجود كل جبل بشيء ما مما عليه، فجاد كل جبل بشيء مما عليه إلا المقطم، فإنه جاد له بجميع ما كان عليه من الشجر والنباتات والمياه فصار اقرع. فلما علم الله سبحانه وتعالي ذلك أوحي إليه: لَأُعَوَّضَنَّكَ عما كان على ظهرك.. لأجعلن في سفحك غرس الجنة.
دفن صحابة رسول الله في المقطم
الاعتقاد بتلك الحكاية التي أوردتها كتب السير هو الذى شكل مكانة جبل المقطم كــ"جبانة" مُقدرة فى الواجد المصري، ففي تلك القبعة، قُبِرَ - أي دُفن- خمسة من صحابة رسول الله "عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدى، وعبد الله بن حذافة السهمي، وأبو بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر الجُهني، وعمرو بن العاص غير أن الأخير مازال شاهد قبرة محل جدل تاريخي حتى هذه اللحظة.
في كتابه "مرشد الزوار إلى قبور الأبرار المسمى الدرر المنظم في زيارة جبل المقطم" يستهل الإمام العارف مرفق الدين بن عثمان باب ذكر المقبور فيه من الصحابة قائلا: "إذا أردت أن تعرف شرف الأرض، فانظر إلى المدفونين بها" ذاكرًا أصحاب رسول الله المقبورين وغيرهم من الأشراف "السيدة نفسية بنت الحسين بن زيد (رضى الله عنها) والشريفة فاطمة، والشريف الهاشمي، وابنته زينب، ومن الأئمة الفقهاء الإمام ليث بن سعد، والإمام الشافعي، عبد الله بن الحكم، المُزَني، وأشهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وأبو يعقوب البوطي، وعبد الله بن وهب، والطحاوي وغيرهم.
كما ذكر في هذا الباب قصة قوية الدلالة تؤيد هذا الاعتقاد، مفادها "أن كعب الأحبار سأل رجلا يريد مصر، فقال اهدِ لي ترابًا من سفح مُقَطَّمِهَا، فأنا نجد في الكتب أن الله قدسة من القصير إلى اليَحمُوم، فأتَاهُ منه بجراب فلما حضرت كعب الأحبار الوفاة، أمر به أن يُفرش تحت جنبه في قبره".
خلوات الحاكم في مغارة المقطم
قيمة المقطم التاريخية لا تقتصر على كونها جبانة فحسب، فقد عُرف أيضا خلال تاريخ الدولة الفاطمية بأن الجبل هو المكان الأثير عند أغرب حكام مصر على الإطلاق وهو الحاكم بأمر الله، فقد كان الحاكم يقصده وحيدًا باستمرار كمكان يتأمل منه السماء والنجوم، تمهيدًا لاعتماده نقطة انطلاق دينه الجديد للعالم، إلى أن قُتل فيه وأُخفيت جثته.
محمد المنسي قنديل في كتابة "وقائع عربية": يذهب إلى الرأي التاريخي القائل بأن اخت الحاكم، ست الملك هي التي قتلت أخيها الحاكم بأمر الله، بعدما قتل ما يكفي من أصدقاء وخلان، وحتى العاديون الذين لم يسلمه منه، فأحرق نصف مدينتهم الفسطاط وجعل السود يهاجمون بيوتهم ويروعون بناتهم.
المنسى يرى أن قصة الحاكم كلها انتهت فوق جبل المقطم فبعد أيام من اختفاء الحاكم أمرت ست الملك الحراس بالبحث عن الحاكم فوق المقطم، إلى أن وجدوا حماره "قمر" ملقى على الأرض تغطية الدماء.
الدروز واعتقادهم بصعود الحاكم للسماء من جبل المقطم
يستكمل الكاتب محمود السعدني في كتابة "مصر من تاني" الجزء المتبقي من حكاية اختفاء الحاكم عند أصحاب الديانة الدرزية، إذ يشير إلى الحملة القوية التي قامت بها السلطة على أتباع دين الحاكم الجديد الذين كانوا يبشروا به سرًا.
يقول السعدني: "عندما تأكد الناس في القاهرة من قتله لكن البحث الطويل لم يسفر عن العثور على الجثة، وقد انتصرت السلطة على أعوان الحاكم وأفراد التنظيم الذي كان يعمل على نشر الدين الجديد في الخفاء. كان أعضاؤه جميعًا من الشباب صغيري السن وقد تم القضاء عليهم بضربة واحدة إلي الأبد. كما أعلن داعي الدعاة بذلك. لكن واحدا استطاع الإفلات من قبضة المباحث الفاطمية، وتسلل هاربًا تحت جناح الظلام.
يتابع السعدني: "اجتاز صحراء سيناء إلى بر الشام، وراح يبشر في بادية الشام وفي وادي اليتم بالدين الجديد وأعلن أن الحاكم بأمر الله رفع إلى السماء وانه المهدي المنتظر الذي سيعود آخر الزمان ليصلح الأرض من الشرور ويقيم العدل قبل الموقف العظيم، ويستطرد السعدني قائلا: "ولد واحد اسمه عبد الرحمن الدرزي وإلي اسمه انتسب معتنقو الدين الجديد: الدروز".
وقوع بد الدين الجمالي في هوى المقطم
قبل نهاية حقبة الحاكم بأمر الله بفترة شهدت مصر أحداثا جساما، إذ دخلت بعد تلك الفترة المرتبكة إلى حقبة مروعة من المجاعة لم تعرف مثلها من قبل وهي ما عرفت تاريخيًا باسم "الشدة المستنصرية" التي لم تنته إلا على يد رجل أرمني عرف باسم بدر الدين الجمالي، كان مولعًا بجبل المقطم.
الجمالي كان مسلما سنيا في دولة شيعة المذهب لذلك كان يعتبر نفسه بإيمانه وجنسيته غريبًا على البلد، غير أنه بعد فترة نشأ بينه وبين جبل المقطم شعورًا ما بالألفة والصحبة والقرب، فكان المقطم هو مكان خلواته وتأملاته ومناجاته مع الله.
الكاتبة ريم بسيوني في روايتها "الحلواني: ثلاثية الفاطميين: الصقلي، الأرمني، الكردي" حكت عن آخر لقاء جمع بين المصريين وبدر الدين الجمالي فوق جبل المقطم، بعد أن بلغ السيد الأجل من الكبر عتيا، إذ وصفت كيف غطت الناس كل الجبل إلى حد وقوف بعضهم عند سفحه من أجل مقابلة السيد الأجل.
تقول بسيوني: "رفع بدر يده يحييهم فألقوا عليه أفرع الشجر والزهور، بعضهم لم يصل إليه وبعضهم وصل، رأي الزهور تتناثر في السماء كمواكب الجنة وصاحوا باسمه ثم رددوا آيات القران: نصركم الله ببدر".
تختتم بسيوني فصل بدر الدين الجمالي قائلة: "جبل المقطم لم يزل يشهد على مصر كلها. يقف محلقًا على القاهرة ومصر، ربما يتذكر الجماد، خروج جميع المصريين تحية لمن أنقذهم من جفاف ومجاعة دامت أكثر من سبع سنوات. يتذكر المصريون الأرمني الذى اتخذ مصر وطنًا وذاب في رمالها واختبأ بين أركانها ووجد ملاذا في أحجار جبل المقطم.