مقدمات الكتب ... ما يقوله بول وارن في خفايا نظام النجم الأمريكي

الجمعة، 17 مايو 2024 09:00 ص
مقدمات الكتب ... ما يقوله بول وارن في خفايا نظام النجم الأمريكي خفايا نظام النجم الأمريكي
أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم عند كتاب "خفايا نظام النجم الأمريكي" لـ بول وارن، ترجمة حليم طوسون،  فما الذي يقوله في المقدمة:

مقدمة:

لا جدالَ في أنَّ الفيلم الشعبي الأمريكي له وقْعُه الساحر على المشاهِدين في كافَّة أنحاء العالَم. وسأحاول أن أبيِّن في الصفحات التالية أنَّ هيمنة السينما الأمريكية تعود أساسًا — وإن لم يكُن الأمر قاصرًا على ذلك بالطبع — إلى تكنيكٍ بسيط وفعَّال تمامًا، تمَّ صقله بكلِّ براعة على مدى العقود الماضية، وأعني بذلك لقطةَ ردِّ الفِعل Reaction Shot. وأنا لم أدون هذا الاصطلاح الإنجليزي أصلًا بحروفٍ مائلة لسببٍ بسيط وهو أنَّه سيَرِدُ العديدَ والعديد من المرَّات على صفحات هذا الكتاب، حتى إنَّه أصبح مألوفًا تمامًا.
ومن المعروف أنَّ السينما تعمل انطلاقًا من ثلاث نظرات: نظرة المُخرِج والمصوِّر الذي يتولَّى مسئوليةَ تصوير اللقطات، ونظرة الممثِّلين كلٍّ منهم لزملائه، ونظرة المتفرِّجين للشاشة. ويعتمد إلى حدٍّ كبير الخيالُ السينمائي الجذَّاب على الالتقاء المتناغِم بين تلك النظرات الثلاث. وعلى أنَّ ما يهمُّني هو نظرة الممثِّلين وردود فِعلها؛ فهذه النظرة بالذات، هي التي تحدِّد النظرتَين الأخريين وتدفع نمو الحدث الخيالي. وبعبارةٍ أخرى فإنَّ تعلُّق أنظار المتفرِّجين بالشاشة يتوقَّف على مدى نجاح الكاميرا في الْتقاط نظراتِ الممثِّلين بعضهم لبعضٍ بشكلٍ سليم، بل واستراتيجي. فعندما يتَّجه نظَرُ الممثِّل نحو حافة الشاشة بوجلٍ أو اشتهاء أو حُب أو كراهية؛ ينعكس ذلك في نهاية الأمر في عينَي المتفرِّج.

كتاب خفايا
كتاب خفايا

 

فما من أحدٍ يستطيع أن يقوِّم الجمالَ السينمائي الفتَّان للممثِّلة إيمانويل بيار في الفيلم الفرنسي الناجح مانون دي سورس، الذي اعتمد تمامًا على تكنيك لقطة ردِّ الفعل الهوليودية. فَفِي هذا الفيلم تقتصر علاقة أوجولين (دانيال أوتوي) بالراعية مانون، على نظرةٍ مفتونة بوتيرةٍ متصاعِدة مصوَّبة على الفتاة من عدَّةِ مراكزِ مُراقَبة: وراءَ جذع شجرةٍ على الحافة اليُّمنى للشاشة، وخلفَ حائطٍ حجري على يسار ووسط سِياجٍ من الأغصان في أسفل الشاشة، وبالانبطاح أرضًا على حافة صخرةٍ تحتلُّ أعلى الشاشة. هكذا أصبحت كافة حوافِّ الشاشة موظَّفة لتلك النظرات. ولكنْ هل المقصود بذلك نظرات أوجولين؟ أبدًا إنها آلاف العيون في قاعة السينما المخيِّم عليها الظَّلامُ، التي دفَعَها تلصُّص الممثِّل من كافة الأرجاء إلى تركيز نظَرِها تدريجيًّا على وسط الشاشة المضيء؛ حيث أصبحت الممثِّلة الشابَّة فريسةً لنظرات المتفرِّجين الفضولية، ولكنَّ السينمائيين الشعراء، ومنهم بالأخصِّ جان لوك جودار، يرفضون الانسياق وراءَ أمثال تلك الحيل السينمائية، رغم تشوُّق المشاهدين.
ولقد برع الأمريكيون في تطبيق استراتيجية لقطة رد الفعل هذه، وغدوا أساتذةَ هذا المجال ولو أننا استعرضنا حوالي خمسة عشر من الأفلام الأمريكية التي حقَّقت نجاحًا ساحقًا؛ لتبيَّن لنا كيف أنَّ هذا التكنيك كان عنصرًا حاسمًا في ترابُط المَشاهد وتطورها، وبالتالي في تجنيد المُشاهِدين، وكيف أنَّه يساهم في إضفاء ما يشبه الواقعية على الصورة السينمائية الأمريكية، وعلى سلوك الممثل الواقعي؛ ممَّا يعطي الانطباع لدى المتفرِّج بأنَّه سيتصرَّف على هذا النحو لو واجه نفْسَ الموقف، بل إنَّ ردَّ فِعله أصبح على هذا النحو؛ نظرًا لأنَّه بات يعيش الوضع نفسه، من خلال الممثِّل.

وسيتبيَّن لنا من خلال هذا الكتاب، أنَّ بعض الأساطير التي قامت على أساسها الأمَّة الأمريكية، ومنها الشعبويَّة (كل ما يجيء من الشَّعب لا بد أن يكون طيِّبًا)، والفردية التي يخفَّف منها تبادل المساعدة وحُسن الجوار والتوغُّل نحو الغرب والزوجان المتناقِضان (توحُّش/تحضُّر) وترابُط الأمة، وحدب العناية الإلهية عليها؛ تدخل في صميم الأفلام الأمريكية وتستخدم لقطةَ ردِّ الفِعل كما لو كانت من الشعائر، حتى باتت متغلغِلة بعمقٍ في اللاوعي الشعبي الأمريكي.
والفصل الثالث من هذا الكتاب، لا يتناول السينما الأمريكية بشكلٍ مباشِر، فهو مخصَّص للفيلم الوثائقي النازي انتصار الإرادة وهو أبرز الأفلام الفاشية في عهد الرايخ الثالث، والنموذج الرسمي الذي سدَّ الطريق بكلِّ فظاظةٍ أمام مساعي التعبيرية الخلَّاقة، بأن فرض شخص الفوهرر على روَّاد السينما الألمان باعتباره الحلَّ النهائي لكافَّة مشاكلهم. غيرَ أنَّه ممَّا لا شكَّ فيه إطلاقًا أنَّ هذا الفيلم انتصارٌ لِلَقطةِ ردِّ الفعل. لقد أصبحت ألمانيا كلُّها مجرَّدَ ردِّ فعلٍ مشترك وبَشِع لممثِّل أوحد، ألَا وهو هتلر. وإني لأقترحُ على القارئ أن يعود إلى ذلك الانتصار ليتكشَّف له مدى خطورةِ هذا التكنيك بل ورجعيته، عندما نتناول فيما بعد الفيلم الروائي الأمريكي من خلال تقصِّي لقطاتِ ردِّ الفعل. وهناك ميزةٌ أخرى لفيلم المُخرِجة ليني رينفستال هذا ذي الطابع الدعائي، وهو أنه فيلمٌ وثائقي. وهذا يعني إذن أنَّ لقطات ردِّ الفعل السينمائية، لها صلةٌ بالواقعية. وعليه فنحن مدعوُّون إلى تبيُّن هذا التكنيك عند دراسة الأفلام الروائية بوصفه المرآة والصَّدى لردود فِعل المتفرِّجين.
وسنتعرض في الفصل الأخير لآيزنشتاين، من زاوية استفادة فرانك كابرا منه وهو المُخرِج الذي احتلَّ المركزَ الأول في تاريخ السينما الأمريكية في مجال نزعته الشعبوية. وقد أردتُ أن أُنهي ملاحظاتي حول لقطةِ ردِّ الفعل بإبراز مدى تزايد تأثيرها، حتى باتت مقاومتها شِبه مستحيلة، وذلك عندما تبيَّنتْ لهم فعاليةُ استخدام الجماهير (تلك الجماهير الثائرة والمندفِعة في فيلمَي البارجة بوتمكين وأكتوبر، اللَّذَين كان لهما أثرٌ كبير على الوسط السينمائي في هوليود في نهاية عهد الأفلام الصامتة) وذلك بالتحكم فيها وتوظيفها لصالح البطل الفرد، من خلال ردودِ فِعلِها إزاء مغامراته المُدهِشة.
وقد تعيَّن عليَّ أن أستخدم هنا وهناك بعضَ المصطلحات التكنيكية مثل المجال والمجال المقابل، وخارج الكادر … غير أنَّ الأمر لا يستدعي أن يكون المرء متخصِّصًا في مجال السينما لكي يفهم معناها وقد حرصتُ على ألَّا أقدِّم تعريفاتٍ مدروسةً لتلك المصطلحات التكنيكية، بل سعيتُ بالأحرى إلى إدماجها بشكلٍ طبيعي في سياقِ الآراء التي عرضتُها (وذلك ابتداءً من الفصل الأول)، بحيث تكتسب معناها بسرعةٍ من خلال مضمونِ النَّص.


 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة