مقدمات الكتب.. إدوارد سعيد يواصل تقديم كتاب الاستشراق (2)

الأحد، 19 مايو 2024 09:00 ص
مقدمات الكتب.. إدوارد سعيد يواصل تقديم كتاب الاستشراق (2) الاستشراق
احمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق" للمفكر الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد، لكننا سنقدمه على حلقات نظرا لطول المقدمة وأهميتها.

الجزء الثاني من المقدمة: 
المقدمة:
2


كانت نقطة انطلاقي افتراض أن الشرق ليس من الحقائق القاصرة ذاتيًّا في الطبيعة بمعنى أنه لا يقتصر على كونه موجودًا وحسب، مثلما لا يقتصر مفهوم الغرب على أنه موجود وحسب، وعلينا أن نأخذ مأخذ الجد الملاحظة الثاقبة التي أبداها «فيكو» — والتي تقول إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، وإن ما يستطيعون أن يعرفوه محدود بما صنعوه — وأن نطبق هذه الملاحظة على الحقائق الجغرافية، فنُدرك أن البشر هم الذين صنعوا ويصنعون «المحليات» و«المناطق» والقطاعات الجغرافية من أمثال «الشرق» و«الغرب»؛ فكلٌّ منهما كيانٌ جغرافي ثقافي، ناهيك بكونه كيانًا تاريخيًّا. وهكذا فإن الشرق، شأنه في هذا شأن الغرب نفسه، يمثِّل فكرةً لها تاريخ وتقاليد فكرية، وصور بلاغية، ومفردات جعلتها واقعًا له حضوره الخاص في الغرب وأمام الغرب. وهكذا فإن الكيانَين الجغرافيَّين يدعمان بعضهما البعض، كما أنهما — إلى حدٍّ ما — يعكسان صورَ بعضهما البعض.

ولكن قولي هذا ليس مطلقًا، ولا بد أن أذكر عددًا من الشروط المعقولة التي تُحدد معناه، فمن الخطأ، أولًا وقبل كلِّ شيء، أن نستنتج منه أن الشرق كان في جوهره فكرةً أو ابتكارًا لا مقابلَ له في دنيا الواقع. وعندما قال «دزرائيلي» في روايته «تانكريد» إن الشرق «حياة عملية»، كان يعني أن الأذكياء من الشباب في الغرب سوف يجدون أن اهتمامهم بالشرق قد تحوَّل إلى عاطفة مشبوبة تبتلع كلَّ ما عداها، ويجب ألَّا يفهمَ من كلامه أنه يعني أن الشرق لا يمثِّل إلا حياة عملية للغربيِّين. فلقد وُجِدَت (وتوجد) ثقافات وأمم تقع جغرافيًّا في الشرق، وكلٌّ منها له حياة وتاريخ وعادات تتسم بواقع صلب أعظم من كلِّ ما يمكن أن يقال تعبيرًا عنه في الغرب، وهذا واضح، ولا تعتزم هذه الدراسة عن الاستشراق أن تُضيفَ شيئًا يُذكَر إلى هذه الحقيقة، إلا الاعتراف بصدقها ضمنيًّا. ولكن ظاهرة الاستشراق التي أدرسها هنا ليس موضوعها مدى صدق الاستشراق في تصوير الشرق «الحقيقي»، ولكن موضوعي الرئيسي هو الاتساق الداخلي للاستشراق والأفكار التي أتى بها عن الشرق (كالقول بأن الشرق «حياة عملية») بغضِّ النظر عن أيِّ صدق أو كذب في تصوير الشرق «الحقيقي». والذي أرمي إليه هو أن ما يقوله «دزرائيلي» عن الشرق يُشير بصفة أساسية إلى ذلك الاتساق المصطنع؛ أي إلى تلك الكوكبة المنتظمة من الأفكار باعتبارها المعلَم البارز للشرق، لا إلى مجرد وجوده، إذا استخدمنا تعبير الشاعر والناقد «والاس ستيفنز».

ومن هذه الشروط ثانيًا أنه من المحال تفهُّم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها. فمن المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق؛ أي جعله يتخذ الصورة التي رسمها المستشرقون، أو الاعتقاد بإمكان حدوث ذلك على الإطلاق. فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة، وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة «المركَّبة» ويدل عليها بدقة عنوان الكتاب الرائع الذي كتبه «ك. م. بانيكار» وهو: «آسيا والسيطرة الغربية».2 ولم يكن سبب اكتساب الشرق للصورة التي رُسم بها يقتصر على أنَّ مَن رسموه اكتشفوا أنه يمكن أن يصبح «شرقيًّا» بالصورة الشائعة لدى الأوروبيِّين العاديِّين في القرن التاسع عشر، ولكنه يتجاوزه إلى اكتشاف إمكان جعله كذلك؛ أي إخضاعه لتلك الصورة الجديدة للشرق. ولا يكاد أحد يوافق على أن مقابلة الروائي الفرنسي «فلوبير» مع غانية مصرية هو الذي أخرج لنا نموذج المرأة الشرقية الذي امتدَّ تأثيره واتسع نطاقه، ولكن هذه المرأة لم تتحدَّث مطلقًا عن نفسها، ولم تُصور قط مشاعرها أو تُعبِّر عن وجودها أو تاريخها، بل إنه هو الذي تحدَّث باسمها وصوَّرها. وكان هو أجنبيًّا، يتمتع بثراء نسبي، وكان رجلًا، وهذه جميعًا حقائق تاريخية مكَّنَته من فرض سيطرته ومكَّنَته؛ لا من امتلاك «كشك هانم» جسديًّا فقط بل أيضًا من التحدث باسمها، وإِطْلاع قُرَّائه على جوانب «تمثيلها للمرأة الشرقية». والحجة التي أطرحها هنا هي أن موقع القوة الذي كان يحتله «فلوبير» إزاء «كشك هانم» لم يكن يمثِّل حالة فردية، بل إنه يمثل بصدق نسقَ القوى النسبية بين الشرق والغرب، ويمثِّل «الخطاب» الخاص بالشرق الذي نشأ بفضل موقع القوة المذكور.
ويُفضي بنا هذا إلى شرط ثالث وهو أنه من الخطأ افتراض أن هيكل الاستشراق لا يزيد على كونه هيكلًا من الأكاذيب أو الأساطير، وأننا إذا ذكرنا الحقائق لدحض هذه وتلك فسوف ينهار البناء وتذروه الرياح، وأنا أعتقد شخصيًّا أن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلًا على السيطرة الأوروبية الأمريكية على الشرق أكثر من كونه «خطابًا» صادقًا حول الشرق (وهو ما يزعمه الاستشراق في صورته الأكاديمية أو البحثية)، ومع ذلك فعلينا أن نحترم ونحاول أن نُدركَ ما يتسم به «خطاب» الاستشراق من قوة متماسكة متلاحمة الوشائج، والروابط الوثيقة إلى أبعد حدٍّ بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار. وعلى كل حال، فإنَّ أيَّ مذهب فكري يستطيع الصمود دون تغيير، واستمرار التمتع بمنزلة العلم الذي يتعلمه الناس (في المعاهد التعليمية والكتب والمؤتمرات والجامعات ومعاهد تخريج العاملين بوزارة الخارجية) منذ عصر «إرنست رينان»، في فرنسا، في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر في الولايات المتحدة، لا بد أن يكون أقوى من مجموعة من الأكاذيب وحسب. وليس الاستشراق إذن خيالًا أوروبيًّا متوهَّمًا عن الشرق، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه مَن أنشأه، واستُثمرت فيه استثماراتٌ مادية كبيرة على مرِّ أجيال عديدة. وقد أدَّى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبًا معرفيًّا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعيِ الغربيِّين، مثلما أدَّى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة.

وقد وضع «جرامشي» التمييز التحليلي المفيد بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؛ فالأول يعني الهيئات الطوعية (أو قُل العقلانية والبريئة من القسر على أقل تقدير) مثل المدارس، والعائلات والنقابات، والثاني يعني مؤسسات الدولة (الجيش والشرطة والبيروقراطية المركزية) والتي تتولَّى السيطرة المباشرة بين أبناء الشعب. وسوف تجد أن الثقافة حية عاملة داخل المجتمع المدني؛ حيث لا يتحقق تأثير الأفكار والمؤسسات والأشخاص الآخرين من خلال السيطرة بل من خلال الرضا وفق تعبير «جرامشي». وهكذا فإننا نرى في أيِّ مجتمع غير شمولي أن أشكالًا ثقافية معينة تتغلب على غيرها، مثلما نرى أن أفكارًا معينة تتمتع بنفوذ أكبر من غيرها، وقد أطلق «جرامشي» على شكل هذه «الزعامة» الثقافية لفظ الهيمنة، وهو مفهوم لا غنى لنا عنه في إدراك حقيقة الحياة الثقافية في البلدان الصناعية في الغرب. ولقد كانت الهيمنة، أو قُل النتيجة العملية المترتبة على الهيمنة الثقافية، هي التي كتبت للاستشراق استمراره مما يسميه «دنيس هاي» «فكرة أوروبا»3 ويعني بها الفكرة الجماعية التي تُحدد هويتنا «نحن» الأوروبيِّين وتفرق بينها وبين جميع «الآخرين» غير الأوروبيِّين، بل إننا نستطيع أن نقول إن العنصر الرئيسي في الثقافة الأوروبية هو على وجه الدقة الذي جعل تلك الثقافة مهيمنة داخل أوروبا وخارجها، أي فكرة الهوية الأوروبية باعتبارها هوية تتفوق على جميع الشعوب والثقافات غير الأوروبية. هذا إلى جانب هيمنة الأفكار الأوروبية عن الشرق، وهي التي تُكرر القول بالتفوق الأوروبي على التخلف الشرقي، وهو القول الذي عادةً ما يتجاهل إمكان وجود مفكر يتمتع بدرجة أكبر من الاستقلال أو التشكك وقد تكون له آراؤه المختلفة في هذا الأمر.
ويعتمد الاستشراق في وضع استراتيجيته، بأسلوب يتسم بالاتساق، على هذا التفوق المرن في الأوضاع، ومعناه وضع الغربي في سلسة كاملة من العلاقات التي يمكن أن تنشأ مع الشرق بحيث تكون له اليد العليا في كل علاقة منها. ولماذا لا يكون الأمر كذلك، خصوصًا في الفترة التي بزغ فيها نجم أوروبا بزوغًا فذًّا منذ أواخر عصر النهضة إلى الوقت الحاضر؟ لقد حضر العلماء أو الباحثون أو المبشرون أو التجار أو الجنود إلى الشرق، أو فكروا في أمر الشرق؛ لأنهم كانوا يستطيعون الحضور إلى الشرق، أو التفكير في الشرق، دون مقاومة تُذكَر من جانب الشرق. ففي الإطار العام لاكتساب المعرفة بالشرق، وتحت مظلة الهيمنة الغربية على الشرق في الفترة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، نشأت صورة مركبة للشرق، وأصبحت ملائمةً للدراسة في المعاهد العليا، وللعرض في المتاحف، ولإعادة الصوغ في وزارة المستعمرات، وللاستشهاد بها نظريًّا في الأطروحات الخاصة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم اللغة، ودراسات الأعراق والدراسات التاريخية عن الجنس البشري والكون، إلى جانب الاستشهاد بنماذج منها في النظريات الاقتصادية والاجتماعية للتنمية والثورة والشخصية الثقافية، وسمات الفرد الوطنية والدينية. أضف إلى ذلك أن الفحص الإبداعي للموضوعات الشرقية كان يستند بصورة شبه كلية إلى وعيٍ غربي سائد، وهو الوعي الذي أفرز تلك الصورة المركزية للشرق التي لم يطعن فيها أحد، وكان ذلك أولًا وفق أفكار عامة تُحدد مَن هو الشرقي أو ما هو الشرقي، وبعد ذلك وفق منطق تفصيلي لا يخضع فحسب لحقائق الواقع الفعلي بل تُمليه شتى الرغبات وضروب القمع والاستثمار والتوقعات. فإذا كنَّا نستطيع الإشارة إلى بعض الأعمال الاستشراقية العظيمة القائمة على البحوث الأصيلة؛ مثل المنتخبات العربية التي وضعها «سلفستردي ساسي»، أو كتاب «وصف أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» الذي كتبه «إدوارد وليم لين»، فعلينا أيضًا أن نذكر أن الأفكار العنصرية لدى رينان وجوبينو قد أملَتها نفس النزعة، مثل عدد كبير من الروايات الإباحية التي كُتبت في العصر الفكتوري، أي في الفترة ١٨٣٧–١٩٠١م (انظر التحليل الذي يقدمه «ستيفنز ماركوس» لما يسميه «التركي الشهواني»).4
ومع ذلك فعلينا أن نطرح على أنفسنا مرارًا هذا السؤال: أي الأمرين أهم في الاستشراق؟ الأمر الأول هو مجموعة الأفكار العامة التي تتجاهل كمية المادة العلمية المتاحة — ومَن ذا الذي يُنكر أن هذه المادة تتخللها أفكارُ التفوق الأوروبي، وشتى ألوان العنصرية، والإمبريالية، وأشباه ذلك، وكذلك الأفكار المتصلبة عن «الشرقي» بصفته لونًا من ألوان التجريد المثالي الذي لا يتغير — والأمر الثاني هو الأعمال البالغة التنوع، والتي كتبها عددٌ يكاد لا يُحصى من المؤلفين المتميزين الذين نستطيع أن نعتبرهم نماذجَ فردية للمؤلفين الذين تناولوا الشرق، والواقع، من زاوية معينة، وأن البديلَين، العام منهما والخاص، يمثِّلان منظورين للمادة نفسها؛ ففي كلتا الحالتين علينا أن نتناول الرواد في هذا المجال مثل «وليم جونز»، المستشرق البريطاني ابن القرن الثامن عشر، وكبار الفنانين مثل «نيرفال»؛ الشاعر الفرنسي ابن القرن التاسع عشر، ومعاصره «فلوبير»، الروائي الفرنسي. ولماذا يتعذر استعمال المنظورين معًا، أو أحدهما بعد الآخر؟ أفلا يتجلَّى خطرُ تشويه الحقيقة (من نوع ذلك التشويه نفسه الذي اتسمت به مذاهب الاستشراق الأكاديمية على الدوام) إذا التزمنا بصورة منتظمة بمستوى في الحديث أشد تعميمًا أو تخصيصًا مما ينبغي؟

تنحصر مخاوفي في أمرين: التشويه وعدم الدقة، أو بالأحرى ذلك اللون من عدم الدقة الذي ينتج عن التعميم القائم على الجمود المذهبي المبالغ فيه، أو عن التركيز على حالات فردية استنادًا إلى المنطق الوضعي وحده. ولقد حاولت، عند محاولة التصدي لهذه المشكلة، أن أتناولَ ثلاثة جوانب التي ظهر لي أنها تمثل المخرج من الصعوبات الخاصة بالمنهج وبالمنظور، وهي التي أناقشها هنا، وهي صعوبات قد تُرغم المرء أولًا على كتابة موضوعٍ جدليٍّ فظٍّ يتسم بمستوى من التعميم المفرط وغير المقبول، بحيث يصبح بذلُ الجهد فيه غيرَ مُجْدٍ، وقد تُرغمه ثانيًا على كتابة سلسلة من التحليلات التفصيلية والفردية المبالغ في خصوصيتها إلى الحد الذي يُعمي عينَيه تمامًا عن الخطوط العامة التي تسير فيها القوى المحركة في هذا المجال، وهي التي تمنحه قوته الخاصة. كيف نستطيع إذن إدراكَ الصفات الفردية والتوفيق بينها وبين السياق الفكري العام المهيمن، وهو أبعد ما يكون عن السلبية أو الاستبداد وحسب؟










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة