أكدت دار الإفتاء أن الصلاة على الميت فرض كفاية، ولا فرق في ذلك بين كونه مدينًا أو غير مدين، وليس فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من التوقف أو الامتناع عن الصلاة على صاحب الدَّيْنِ ما يُفيد عدم مشروعيتها لـعموم الأمة؛ إنما كان المقصود من الحديث هو الندب إلى المبادرة إلى سداد دين الميت المدين، وحثًّا للقادرين على ذلك، وتنبيهًا للحاضرين على عِظم أمر الدَّيْنِ وضرورة المسارعة إلى قضائه حال الحياة، فضلًا عن كون الحديث منسوخًا.
جاء ذلك خلال ردها على سؤال ما حكم الصلاة على الميت الذي عليه دين؟ حيث ورد في كتب الحديث أنّ النبي صلّى الله عليهِ وآله وسلّم ترك صلاة الجنازة على من مات وعليه دين؛ فهل الصلاة على من مات وعليه دين حرام؟ نرجو منكم بيان الحكم الشرعي في ذلك.
حكم صلاة الجنازة وبيان ثوابها وفضلها
المقرر شرعًا أنَّ صلاة الجنازة على الميت فرض كفاية؛ إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحدٌ أثِمَ الجميع، وقد حثَّ الشرع الشريف على صلاة الجنازة ورتَّب عليها الأجر والثواب، وجعلها من حقِّ المسلم على أخيه؛ فقد رَوى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: رَدُّ التَّحِيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَشُهُودُ الْجِنَازَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ»، ورَوى الشيخان في "صحيحهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ»؛ قال الإمام ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (1/ 362، ط. السنة المحمدية): [فيه دليلٌ على فضل شهود الجنازة عند الصلاة وعند الدفن، وأنَّ الأجر يزداد بشهود الدَّفن مضافًا إلى شهود الصلاة] اهـ.
بيان ما ورد في السنة من ترك النبي عليه السلام صلاة الجنازة على الميت المدين
أما ما ورد في كتب السُّنَّة من أنّ النبي صلّى الله عليهِ وآله وسلّم ترك صلاة الجنازة على من مات وعليه دَيْن؛ فيما روى البخاري في "صحيحه" عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟»، قَالُوا: لا. فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟»، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ؛ فليس فيه نهيٌ عن الصلاة على من مات مديونًا، ولكنه صلّى الله عليهِ وآله وسلّم ترك ذلك لحكمة.
فإنه من المقرر أن الوقوف على الفَهم الصحيح لما يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام أو تشريعات في حديث ما، إنما يُعلم ويُتَوَصَّلُ إليه بجمع طرق هذا الحديث ورواياته؛ ذلك أنَّ النظر في طرق الحديث ورواياته مما يُستعان به على فهم ألفاظه ومشكلاته، فربما أُبْهِمَت كلمة في رواية، وبُيِّنت في رواية أخرى، وربما أُطْلِقَ حكم في طريق وقُيّد في طريق آخر.
قال الإمام أحمد بن حنبل فيما يرويه عنه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 212، ط. دار المعارف): [الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا] اهـ.
والحديث السابق والدال في ظاهر معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك صلاة الجنازة على من مات وعليه دين، قد كثرت رواياته وتعددت ألفاظه، وبالوقوف عليها يتبين ما يأتي:
أولًا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فرق في صلاته بين من مات وقد ترك ما يُقْضَى به دينه فصلى عليه، ومن مات ولم يترك شيئًا يُقضى به فتوقف في الصلاة عليه، وذلك فيما يرويه الإمام البخاري في "صحيحه"، عن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»، قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»، قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»، قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ".
ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على مَن ضمن الصحابة سداد دينه كما هو في الروايتين السابقتين، وحثَّ على ذلك فيما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أنه أُتِيَ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ: «هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا يَنْفَعُكُمْ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ رُوحُهُ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ لَا يَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ دَيْنَهُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وفي لفظ أنه قال: «إِنْ ضَمِنْتُمْ دَيْنَهُ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ» وفي لفظ: «أَفَيَضْمَنُهُ مِنْكُمْ أَحَدٌ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟» أخرجهما البيهقي في "السنن الكبرى"، وفي لفظ: «لِيَقُمْ أَحَدُكُمْ فَلْيَضْمَنْ دَيْنَهُ؛ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ» أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء".
ثالثًا: إنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أثنى ودعا لمَن تحمَّل الدين عن الميت المدين، وبيَّن ما وراء ذلك من الثواب العظيم والأجر الوفير؛ وذلك فيما روي عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، أنه لما تكفل بقضاء دين ميت، قال له رسول الله صَلَّى اللهُ وآله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ، جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَكَّ اللهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، فَمَنْ فَكَّ رِهَانَ مَيِّتٍ فَكَّ اللهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لِعَلِيٍّ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: «لَا، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
سبب ترك النبي عليه السلام الصلاة على الميت المدين المعسر
يُستفاد من ذلك كله:
أن ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة على من مات مدينًا وهو معسر؛ إنما كان لحث المسلمين على قضاء الدَّيْنِ عن الميت، حتى تبرأ ذمته وتطمئن روحه، وهو ما بينه لهم بقوله: «رُوحُهُ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ»، وما حثهم عليه بطلب القضاء عنه، ثم لكي يطمئن صاحب الدَّيْنِ على ماله، ويتجدد أمله في الإيفاء به، فلا يكون موت المدين ضياعًا لحقوق الناس، فيتخذ الناس ذلك ذريعة لترك معاونة بعضهم بعضًا في حاجتهم تخوفًا من ضياع حقوقهم.
نفي إرادة النبي الزجر والانتقاص من حق الميت المدين لعدم سداد دينه
لا يحتمل أن يُراد من الحديث الامتناع عن الصلاة على من مات معسرًا وعليه دين للزجر أو الانتقاص من حقه في الصلاة لتركه سداد دينه، إذ إن الحديث إنما يستدل به على مشروعية الصلاة عليه بأمرهم بها، وإنما كان توقفه صلى الله عليه وآله وسلم حثًّا لهم على تحمل الدَّيْنِ عنه، لعلمه بحرصهم على صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على صاحبهم وما يرجونه من ورائها من الرحمة والمغفرة له، فكأن توقفه أو امتناعه من الصلاة رحمة به -أي: الميت المدين- وبصاحب الدَّيْنِ لا عقوبة ولا ردعًا، خاصة وأن المدين المعسر هو ممن أوجب الله له تعالى الحق في الزكاة وجعله مصرفًا من مصارفها، فكيف إن انقطع رجاؤه من الدنيا بموته ألَّا يشرع له من الأحكام ما يسد به دينه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "إِنَّمَا الظَّالِمُ عِنْدِي فِي الدُّيُونِ الَّتِي حُمِلَتْ فِي الْبَغْيِ وَالْإِسْرَافِ وَالْمَعْصِيَةِ"، فَأَمَّا الْمُتَعَفِّفُ ذُو الْعِيَالِ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم بَعْدَ ذَلِكَ: «مَنْ تَرَكَ ضِيَاعًا أَوْ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مِيرَاثًا فَلِأَهْلِهِ» وَصَلَّى عَلَيْهِمْ. ذكره الحازمي [ت: 584هـ] في "الاعتبار" (ص: 128، ط. دائرة المعارف الإسلامية).
وينضاف إلى ذلك: أن في الحديث الشريف تنبيهًا للناس على عظيم أمر الدَّيْنِ وأنه ممَّا تتألم وتتعلق به الروح بعد الوفاة، تحريضًا لهم على المسارعة في قضاء ما عليهم من الديون، وزجرًا لهم عن الاستدانة دون حاجة حقيقية لذلك أو تعمد المماطلة والتقصير في الأداء.
ومن ذلك كله يُعلَم أنَّ ترك النبي الصلاة على الميت المدين أو توقفه فيها قد كان لمقصود شرعي، وهو حث المسلمين على القضاء، حتى مكنه الله تعالى من القضاء عنهم فقضى وصلى عليهم.
وعلى اعتبار القول بأن ترك صلاته على المدين قد نسخ، فإن المعنى الذي لأجله قد ترك الصلاة -وهو قضاء الدَّيْنِ عنه- لم ينسخ بحال إذ إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى عليه حال تيقنه من القضاء، ولأجل ذلك فإنه يندب على كلِّ مسلم المبادرة إلى قضاء دين الميت عنه إن استطاع ذلك، حتى تبرأ ذمة أخيه ويفكّ رهانه وتطمئن روحه في قبره، مع ما وراء ذلك من نيل فضل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمثوبة العظيمة.
الخلاصة
بناء على ذلك: فالصلاة على الميت فرض كفاية، ولا فرق في ذلك بين كونه مدينًا أو غير مدين، وليس فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من التوقف أو الامتناع عن الصلاة على صاحب الدَّيْنِ ما يُفيد عدم مشروعيتها لعموم الأمة؛ إذ كان ذلك لحكمٍ تشريعية لا تتعداه لغيره كما سبق وبيَّنا، والمقصود من الحديث إنما هو الندب إلى المبادرة إلى سداد دين الميت المدين، وحثًّا للقادرين على ذلك، وتنبيهًا للحاضرين على عِظم أمر الدَّيْنِ وضرورة المسارعة إلى قضائه حال الحياة، فضلًا عن كون الحديث منسوخًا.