نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف عند كتاب "ابن خلدون الإنسان ومنظر الحضارة" لـ عبد السلام شدادي، ترجمة حنان قصاب حسن، والذى يقول في المقدمة تحت عنوان "استهلال":
لا شك فى أن ابن خلدون شخصية تحتل موقعا خاصا فى الثقافة العربية والإسلامية، وربما في ثقافة ما قبل الحداثة غير الغربية كلها، وهناك من يعتبره عبقرية استثنائية، وهناك من يراه معجزة، وفي كل الأحوال يظل ظاهرة إعجازية بالمعنى الإيجابي للكلمة، تماما كما قيل عن برليوز أنه كان الظاهرة الأكثر إعجازًا في موسيقى القرن التاسع عشر، لما فيه من شيء استثنائي ومدهش.
بعد إعادة اكتشاف ابن خلدون قبل ما يقارب قرنين من الزمن، تميزت العقود الأربعة الأخيرة بأعمال مهمة استطاعت بالتدريج أن تعيد تشكيل صورة أقل مثالية وأقل ابتسارًا عنه وعن مؤلفه، وأكثر قربا من الواقع التاريخي.
في الوقت ذاته، تم تحديد وتقدير مدى مساهمته في مجال الأنثروبولوجيا بشكل أفضل، إن كتابنا هذا حول مؤلف كتاب العبر يندرج في اتجاه المراجعة هذا، ولكونه قد جاء في نهاية مرحلة ابن خلدون.
ابن خلدون الانسان ومنظر الحضارة - عبد السلام شدادي_0000
فإنه يطمح إلى شيء مزدوج أن يقوم بتقديم صورة متكاملة حول ابن خلدون الإنسان، وحول مؤلفاته على ضوء نتائج الأبحاث الأخيرة عن عصره وعن الإسلام الكلاسيكي والقروسطي بشكل عام، ومن جهة أخرى أن يقترح تفسيرات وآفاق جديدة تأخذ بعين الاعتبار بأكبر قدر ممكن البعد التاريخي للمؤلفات، وهو ما ظل في كثير من الأحيان، وحتى يومنا هذا مهملا.
لكن ربما كان علينا قبل أن نقلب الصفحة أن نذكر، ولو في الخطوط العريضة فقط، التاريخ القريب للطرق المتنوعة التي استخدم فيها مؤلف استثنائي في كثير من الجوانب.
هذا التاريخ يبدأ كما تعلم في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، في فترة تأثرت فيها أوروبا بانبثاق (علوم الإنسان الجديدة ويكونها العصر الأساسي للإمبريالية الأوروبية من وقتها، توالت ثلاثة أشكال من القراءات) لابن خلدون ففي البداية قام باستثماره الفيلولوجيون الذين كانوا من أوائل من اكتشفه، ثم انتقل بعدها ليد المؤرخين ليصير في النهاية مصدر سعادة لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا.
في 1810، قام عالم الفيلولوجيا الفرنسي الشهير سيلفتسر دو ساسي بتقديم المقتطفات الأولى من المقدمة في كتابه مصر كما رواها عبد اللطيف )، وحتى عام 1827، ظل التركيز قائما بشكل أساسي على المقدمة التي أثارت المقاطع العديدة المأخوذة منها، حين نشرها الدهشة والإعجاب في فرنسا وفي أوروبا.
ومع ذلك، فإن النص الكامل لم يوضع مباشرة بمتناول الجمهور رغم اكتشاف وجود مخطوطة للمقدمة في مكتبة الملك، ويبدو أن السبب في ذلك كان اكتشاف مظهر آخر لمؤلف ابن خلدون في عام 1828.
وبالفعل فإن المستشرق شولتز قد نشر في تلك السنة فصلا من كتاب العبر يتعلق بأصول البربر ومن وقتها بدا أن التعريف بالجزء المتعلق بتاريخ أفريقيا الشمالية من ذلك الكتاب أكثر إلحاحا. وهكذا، بقرار من وزير الحربية الفرنسي في عام 1840 ، تم تحقيق وترجمة أول نص هام لابن خلدون، وهو تاريخ البربر والدول الإسلامية في أفريقيا الشمالية.
وتلاه بعد ذلك بقليل تحقيق وترجمة (المقدمة)، لكن حتى نهاية القرن التاسع عشر، ظل الاهتمام مركزا على الأخص على الأجزاء التاريخية من كتاب العبر التي تتناول افريقيا الشمالية وإسبانية المسلمة وصقلية أثناء تلك الفترة، لم يستخدم ابن خلدون كمصدر تاريخي مباشر وحسب، وإنما أيضًا كدليل من أجل كتابة التاريخ السياسي والثقافي للبلاد الإسلامية بشكل عام، ولإفريقيا الشمالية بشكل خاص.
منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وعلى الأخص اعتبارا من بداية القرن العشرين نشهد انزياحا تدريجيا في استخدام ابن خلدون: فقد تم الانتقال من الملامح التاريخية في مؤلفاته إلى الملامح السوسيولوجية والاقتصادية والجغرافية والأنثروبولوجية.
ولقد تفوقت (المقدمة بشكل نهائي على بقية كتاب العبر وأدرجت ضمن الفكر الكوني ووصف مؤلفها بأنه عقلاني) وحداثي، واعترف به كواحد من السباقين الذين مهدوا الطريق للعلوم الاجتماعية.
ولقد تم التأكيد على وجود هوة بين المقاربة النظرية والعلمية لابن خلدون، وبين عمله كمؤرخ بالمعنى الحقيقي للكلمة، والذي ظل أسير التقاليد التاريخية الإسلامية.
مع ذلك، ومنذ سنوات الخمسينيات، ومع الترجمة الإنجليزية الجديدة للمقدمة التي قام بها فرانتز روزنتال، وهي ترجمة كاملة ودقيقة وتترافق بحواش نقدية غنية للغاية، رغم أنها كانت جامدة قليلا في بعض الأحيان، وتترافق بحواش نقدية غنية للغاية، وكذلك مع الدراسة الشمولية التي قدمها محسن مهدي عن المقدمة والدراسات المعمقة حول الجوانب المختلفة لتلك المقدمة التي قام بها والتر فيشيل وفرانتز روزنتال وغيرها، تم التوجه نحو رؤية أكثر توازنا حول ابن خلدون، تجد له موضعا، أفضل في عصره، وضمن الفكر الإسلامي بشكل عام، ولئن كانت النظرية المركزية لدى محسن مهدي تميل نحو تفسير فلسفي للمقدمة، فإن الدراسات الأخيرة في تاريخ وأنثروبولوجيا المغرب والعالم العربي والإسلامي تؤكد بشكل أكبر على الملامح السوسيولوجية والأنثروبولوجية، ففي العالم الأنجلو ساكسوني، وبشكل خاص جزئيًا بفضل ترجمة روزنتال يبدو أن المساهمة الأنثروبولوجية لذلك الكتاب قد تم إبرازها وإدراجها في تاريخ الأنثروبولوجيا.
والأكثر من ذلك، تبوأ ابن خلدون أكثر من أي مؤلف آخر من الماضي مكانة متميزة بين علماء الأنثروبولوجيا الحديثين. وكان هناك كثيرون تابعوا عمله من بينهم وأكثرهم شهرة ارنست جيللنر الذي وضع النموذج الخلدوني للسلطة وللعلاقات بين المجتمعات الزراعية والعمرانية في مركز دراساته حول المجتمعات المغربية والإسلامية.
ومع ذلك، فإن إدماج ابن خلدون بهذا الشكل في التقاليد الحديثة للعلوم الإنسانية لم يلبث أن طرح مشاكل عديدة، فالطريقة التي تم إدماجه بها تبدو أولا مبهمة فإن كان أرسطو وأفلاطون والقديس أغسطينوس والكندي والفارابي أو ابن رشد قد درسوا في إطار تاريخ الفلسفة، وإن كانت أفكار هيرودوتوس وتوسيديس وأفلاطون وأرسطو أو أبيقوريس حول المجتمع قدمت ضمن تاريخ الفكر الأنتروبولوجي، فإن ابن خلدون قد وضع في مرتبة دوركهايم وماركس أو إيفانس - بريتشارد وتناقش نظرياتة بالطريقة نفسها التي تعالج بها النظريات
المعاصرة كما أن جيللنر قد أكد أكثر من مرة أنه يرى فيه أهم عالم سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا في العصور كلها، كيف نفهم إذن هذا التميز الفريد من نوعه بالانتماء إلى عصر آخر وإلى عصرنا في أن معا؟ هذا في حين يتم على العكس تماما التعامل مع أكثر المؤلفين أهمية في الثقافة الإسلامية التي ينتمي إليها ابن خلدون کمفکرين يعودون إلى ثقافة أخرى يتم النظر إليها على أنها مختلفة جذريًا عن الثقافة الغربية. إن حالة ابن خلدون تطرح هكذا بشكل جوهري مليء بالمفارقة، على الأقل فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية مشكلة العلاقات بين التقاليد العلمية الحديثة والتقاليد العلمية ما قبل الحداثية وغير الغربية.
هذه المسألة ستكون في لب تفكيرنا حول مؤلفات ابن خلدون وسوف تدفعنا لأن نحاول توضيعها بأكثر ما يمكن من الدقة في سياق المجتمع والثقافة العربية الإسلامية، والمغربية أيضًا بشكل خاص، وذلك مع القيام دائما بمقارنات مع الفكر القديم والفكر الغربي الحديث. ولئن كنا قد استبعدنا القرون الوسطى الغربية، وذلك لأننا نرى أن مقارنة ابن خلدون بمؤلفي تلك الفترة تستحق أن تكون موضوعا لكتاب مستقل، وعلى الأخص بالنسبة للقرنين الثالث عشر والرابع عشر اللذين شهدا ظهور شخصيات مثل مارسيل دو بادوا في مجال الفلسفة السياسية أو جيوم دوكسام في مجال المنطق، وهما من بين أوائل الذين استكشفوا مسالك جديدة للمجالات التي فتحها أرسطو كذلك، وعلى الأخص لأن ما يبدو لنا اليوم أكثر فعالية في فكر ابن خلدون، هو المجابهة التي يسمح بها ما بين النموذج الاجتماعي والسياسي القروسطي الذي احتفظت به المجتمعات العربية الإسلامية حتى يومنا هذا، رغم تيارات الحداثة التي عبرت في داخلها من جميع الجوانب منذ قرنين على الأقل، وبين النموذج الاجتماعي والسياسي الغربي الذي تطور عموما ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وإننا نأمل بذلك أن نطرح بشكل جديد مسألة مكانة الثقافة العربية الإسلامية ومجتمعاتها ضمن التاريخ الكوني لانبثاق العالم الحديث.