جهود كبيرة بذلتها الدولة المصرية خلال الأشهر الماضية، وتحديدا منذ بدء العدوان على غزة، لتقويض محاولات الاحتلال الإسرائيلي، للفصل بين القطاع، والقضية الفلسطينية، وهي المحاولات التي اتخذت مسارا ميدانيا، عبر الترويج لفكرة غزل القطاع عن الضفة الغربية، بينما اتخذت مسارا آخر فكريا، عبر التركيز على التهديد الذي تمثله الفصائل القاطنة به، على أمن الدولة العبرية، مما يلفت أنظار المجتمع الدولي، عن حقيقة المخطط الذي تتبناه حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والقائم في الأساس على تصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على أي أمل من شأنه تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والذي يمثل في جوهره الأساس لحل الدولتين، وبالتالي الشرعية الدولية.
وبالنظر إلى الرؤية المصرية، للأزمة في غزة، نجد أن ثمة ارتباط عميق بين ما شهده القطاع خلال الأشهر الماضية، ومستقبل فلسطين، وهو ما بدا في الخطاب الذي تبنته القاهرة، منذ القمة التي عقدت على أراضيها في أكتوبر الماضي، والتي شهدت توافقا عابرا للثقافات والأقاليم، حول ثوابت القضية، جنبا إلى جنب مع التعاطي مع الأوضاع في القطاع، عبر الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وتمرير المساعدات الإنسانية، والتوقف عن استهداف المدنيين ومنشآتهم وغيرها.
إلا أن الجهود المصرية ربما لم تتوقف على مجرد تعزيز الثوابت الفلسطينية عبر خطابات عصماء، أو أحاديث مفرغة متكررة، وإنما صاحبتها خطوات عملية، ارتكزت على التنسيق مع مختلف الأطراف المؤثرة في المعادلة الدولية، من أجل تعزيز حقوق الفلسطينيين، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أبرزها الظفر باعتراف المجتمع الدولي بدولة فلسطين، وهو الأمر الذي استجابت له قوى أوروبية مؤثرة مؤخرا، وهي إسبانيا، والنرويج وأيرلندا، بينما حصلت على تعهدات مماثلة من دول أخرى، على غرار بلجيكا، وهو الأمر الذي لعبت فيه مصر دورا مؤثرا، ويكفينا التركيز في هذا المقام، على أن الإعلان عن مناقشة الأمر من قبل رئيسي وزراء بلجيكا أليكسندر دي كرو، وإسبانيا بيدرو سانشيز، كان خلال زيارتهما للقاهرة، وهو ما يعكس الدور المحوري الذي لعبته مصر في هذا الإطار.
والحديث عن الإعلان عن نية إسبانيا وبلجيكا الاعتراف بدولة فلسطين من أرض مصر، يمثل امتدادا صريحا لحالة من الجماعية، في إطار ثلاثي (مصر وإسبانيا وبلجيكا)، وهو ما يمثل امتدادا لـ"الثلاثيات"، التي سبق وأن دشنتها القاهرة، في العديد من المراحل خلال السنوات العشر الماضية، منها ثلاثيتها مع اليونان وقبرص، وكذلك مع الأردن والعراق، وغيرهما، حيث كان لكل منهم أثرا كبيرا على مستقبل المنطقة، في ضوء حالة من التعاون الإقليمي التي من شأنها تحقيق المصالح المشتركة، ثم تكرر المشهد الثلاثي بعد ذلك، إثر الإعلان المشترك بين الدول الثلاثة سالفة الذكر (إسبانيا والنرويج وأيرلندا) الأربعاء الماضي، وهو ما يعكس حالة من التحرك الجماعي، الذي يهدف إلى تحقيق قدر من التوازن الدولي، في لحظة باتت فيها الحالة العالمية، في إطارها الأحادي، تعاني من الاختلال، وهو ما بدا في العجز الكبير عن الانتصار للشرعية الدولية، طيلة عقود طويلة من الزمن، بينما تجلى الأمر ببهاء في الأزمة الراهنة، إثر استخدام الفيتو لأكثر من مرة من قبل الولايات المتحدة ضد حقوق الفلسطينيين المشروعة.
الجانب الآخر فيما يتعلق بتعزيز الثوابت الفلسطينية، يتجسد في إيجاد آليات بديلة، أو بالأحرى مساعدة، من شأنها تعزيز الشرعية الدولية، وهو ما بدا في اللجوء إلى القضاء الدولي، وهو ما يبدو في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يمثل محاولة دولية أخرى، في تحريك المياه التي ركدت بسبب التعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي في مجلس الأمن مما يساهم في فرض المزيد من الضغوط على الدولة العبرية للخضوع إلى الإرادة الدولية عبر آليات أخرى، تهدف في جوهرها إلى تحقيق إصلاح المنظومة الدولية وإعادة الاتزان لها.
ولعل الدور المصري في هذا الإطار يتجلى في مسارات ثلاثة متوازية، أولها عودتها إلى عمقها الإفريقي، خلال السنوات الماضية بعد فترة طويلة من الانعزال، ليصبح الموقف الذي تتبناه تجاه القضية محلا للدعم من قبل شركائها الأفارقة، مما دفعهم إلى التحرك عمليا، بعيدا عن لغة الخطاب المعتادة، بينما يبقى المسار الآخر متمثلا في مرافعتها التاريخية أمام المحكمة، ثم انضمامها للدعوى، في حين كان المسار الثالث متمثلا في كونها أول من دعا إلى تفعيل مبدأ المحاسبة، تجاه الانتهاكات الإسرائيلية من خلال كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام القمة العربية الإسلامية في الرياض في نوفمبر الماضي، وهو ما ترجمته بعد ذلك مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، باستصدار أمر باعتقال نتنياهو وعدد من أعضاء حكومته بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
وهنا يمكن القول بأن الدولة المصرية تحركت نحو تعزيز ثوابت فلسطين، عبر خطوات عملية من شأنها تعزيز الشرعية الدولية والانتصار لحقوق الفلسطينيين، وهو ما ترجمته المواقف التي تبنتها دول موالية للمعسكر الغربي، والمعروف بانحيازه لإسرائيل، وتمثل انتصارا مهما للقضية، ربما أحدثها الاعتراف الثلاثي بالدولة الفلسطينية، والذي يمثل انتصارا للتاريخ، بينما يعكس في الوقت نفسه نجاحا منقطع النظير في استثمار أزمة غزة لقطع خطوات واسعة نحو الحق التاريخي، الذي سعى العالم إلى طمسه لعقود طويلة من الزمن.