وصل الدكتور نجيب محفوظ أحد رواد الطب فى تاريخ مصر إلى قرية موشا بأسيوط، للانضمام للفريق الطبى الذى يعالج أهلها من وباء الكوليرا، الذى بدأ فى 25 مايو 1902، وزاد انتشاره منذ اليوم التالى، 26 مايو، مثل هذا اليوم، 1902، ولمدة شهر.
كان نجيب محفوظ وقتئذ من طلاب السنة النهائية بكلية طب قصر العينى، وجندت الحكومة هؤلاء الطلاب مع أطباء إنجليز على رأسهم «جودمان» لمكافحة الوباء الذى انتقل من القرية إلى القرى المجاورة فى مركز ديروط، وبالرغم من أن توزيع «محفوظ» للعمل جاء فى محطة السكة الحديد بالقاهرة لفحص المشتبه فيهم القادمين من الصعيد، فإنه طلب نقله إلى موشا ليكون فى موقع الحدث، ولم يثنيه عن قراره تحذير مرؤوسيه وأسرته، وبالفعل تحقق له ما أراد، وسافر، ويسجل فى مذكراته «حياة طبيب» قصة هذه الأيام.. «راجع، ذات يوم، 25 مايو 2024».
يذكر «محفوظ» أنه وصل إلى أسيوط بالقطار، ومنها سافر إلى موشا فى قافلة تسافر يوميا فى منتصف الساعة السابعة على ظهور الحمير وتستمر ساعتين، وحين وصل إلى موشا قابل رئيس الفريق الطبى «جودمان» الذى سأله عن اقتراحه لحل هذه المشكلة، فرد «محفوظ» بأنه سيحاول أن يفعل شيئا، فقال له: وماذا تريد من الوسائل لمحاولتك؟ فرد «محفوظ »: قائمة للوفيات وتواريخ حدوثها، وخريطة للقرية، ورسما بيانيا لسير الوفيات فيها، وكذلك أطلب الإذن فى دخول المنازل لمعرفة موقع الآبار التى تتسبب فى هذه المشكلة.
أقام «محفوظ» فى خيمة منصوبة فى العراء لإقامة الأطباء، وكان لكل طبيب خيمة خاصة به مزودة ببعض أدوات غسل الوجه واليدين، وكان هناك خادم يتنقل بين الخيام لمساعدة من يبغى الاستحمام، والتقى بالدكتور على إبراهيم باشا، الذى يسبقه بسنتين، والدكتور شقير، وقدما إليه نصائح، ونهياه عن التعرض للشمس لشدة الحرارة التى تبلغ خارج الخيمة 53 درجة.
أرسل «جودمان» إلى محفوظ إطارا رسمه مهندس تمهيدا لعمل خريطة للقرية، وقائمة بالمتوفين بالكوليرا، وتاريخ وفاتهم، وطلب من نائب العمدة أن يصحبه إلى زيارة المنازل للكشف عن الآبار التى يخفيها الأهالى عن العيون، ويذكر «محفوظ» أنه لجأ إلى مسجد القرية وقت صلاة الجمعة، وخطب موضحا، أن انتشار الكوليرا يعود إلى أن الآبار تلوثت بحشرات مؤذية لا تراها العيون، وطلب من الناس أن يعينوه فى مهمته للوصول إلى الآبار الموبوءة التى يخفونها داخل ديارهم لتطهيرها، وقال: «أنا شاب دون العشرين، تطوعت للخدمة غير مبال بالخطر، وأطلب منكم أن تعينونى».
شرع «محفوظ» فى رسم خريطة للقرية، وكانت الصعوبات التى قابلته أن القرية عبارة عن كثير من الحارات، التى تنتهى بزقاق مسدود بأحد المنازل، فلا يوصل إلى تتمة الحارة إلا بالصعود إلى السطح والنزول منه للدخول فى الحارة التالية.
انتهى «محفوظ» من رسم الخريطة فى خمسة أيام، ثم بدأ عمله بالتفتيش عن الآبار المخبوءة.. يتذكر: «كان الأهلون يخفونها بوضع ألواح من الخشب القديم عليها، ويفرشون فوق الألواح حصيرا باليا يسمونه الأبراش، ثم يغطون الحصير بالتراب، فلا يهتدى إلى مكان البئر إلا من يعرف السر، وكنت أصل إلى اكتشافها بأن أقرع أرض فناء المنزل بهراوة غليظة تسمى النبوت، أعارتها من نائب العمدة الذى كان يصحبنى فى القيام بهذه الزيارات، فإذا كان صدى القرع أصم، علمت أن ليس هنا مكان بئر، وإذا كان الصدى رنانا أمرت بنبش الأرض، فأجد فوهة البئر مغطاة بالحصير فوق ألواح الخشب، ومتى اكتشفت بئرا وضعت نقطة حمراء فى موضعها من رسم القرية، وكتبت اسم صاحب المنزل المحتوى على البئر فى دفتر خاص، وبهذه الطريقة اكتشفت من الآبار المخبوءة نحو خمسين».
تناول «محفوظ» قائمة الوفيات وتواريخها، ووضع نقطة سوداء عند كل منزل حدثت فيه وفاة، وتبين له أن كل الوفيات حدثت فى المنازل المجاورة لبئر كبير اشتهر بعذوبة مائها، فكانوا أصحابها وجيرانهم يملأون منه فى السر للشرب ثم يغطونه، يتذكر «محفوظ» أنه ملأ صفيحة منه وأرسلها إلى التحليل فى معمل «بكتريولوجى» فى أسيوط، وأظهر التحليل أنه عامر بميكروب الكوليرا، فتم تطهيره ثم ردمه، وبعد أسبوع انقطعت الكوليرا من موشا».
انتقل «محفوظ» إلى ديروط لمقاومة الوباء أيضا، ثم جاء إلى حلوان، وسافر إلى الإسكندرية، وفى نهاية ديسمبر 1902 تم القضاء على الوباء بعد أن حصد 34 ألفا و595 شخصا، وعاد نجيب محفوظ إلى دراسته، وكان أول الناجحين فى مدرسة الطب، وأصبح من رواده فى تاريخ مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة