في الحلقة السابقة من تحقيق صحيفة الجارديان، بدأت الصحيفة البريطانية في كشف تاريخ الابتزاز الاسرائيلي للعدالة وكيف لاحق رئيس الموساد الأسبق يوسي كوهين ممثلة الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية في محاولة فاشلة لتجنيدها ما دفعه لابتزازها وتهديدها بافراد اسرتها.
وتستكمل الصحيفة السلسلة، موضحة كيف أدارت إسرائيل حرب سرية دامت عقد تقريبا ضد المحكمة الجنائية الدولية ونشرت وكالاتها الاستخباراتية للمراقبة والاختراق والضغط وتشويه السمعة وتهديد كبار موظفي الجنائية الدولية في محاولة لعرقلة تحقيقاتها، حيث راقبت المخابرات الإسرائيلية على اتصالات العديد من مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك المدعي العام كريم خان وسلفه في منصب المدعي العام، فاتو بنسودا، واعترضت المكالمات الهاتفية والرسائل ورسائل البريد الإلكتروني.
وأشارت الصحيفة إلى أن مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان اصدر تحذيرا غامضا عند إعلان سعيه لإصدار أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيليين وحماس، حيث قال: "أصر على ان جميع المحاولات الرامية لإعاقة او تخويف او التأثير بشكل غير لائق على مسؤولي هذه المحكمة يجب ان يتوقف في الحال".
ولم يقدم كريم خان تفاصيل محددة عن محاولات التدخل في عمل المحكمة الجنائية الدولية، لكنه أشار إلى بند في المعاهدة التأسيسية للمحكمة يجعل أي تدخل من هذا القبيل جريمة جنائية. وأضاف أنه إذا استمر هذا السلوك فإن مكتبه لن يتردد في التحرك، ولم يذكر المدعي العام من حاول التدخل في إدارة العدالة، أو كيف فعلوا ذلك بالضبط.
وقالت مصادر للجارديان إن نتنياهو أبدى اهتماما وثيقا بالعمليات الاستخباراتية ضد الجنائية الدولية، ووصفه احد مصادر الاستخبارات بانه "مهووس" بالتنصت علي هذه القضية، وقالت المصادر إن المعلومات الاستخبارية التي تم الحصول عليها من عمليات الاعتراض تم توزيعها على وزارات العدل والخارجية والشؤون الاستراتيجية.
وفي اتصال مع الصحيفة، قال متحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية إن المحكمة على علم بأنشطة جمع المعلومات الاستباقية التي يقوم بها عدد من الوكالات الوطنية المعادية للمحكمة وانها تنفذ باستمرار تدابير مضادة ضد مثل هذا النشاط.
وأشارت الصحيفة إلى أن قرار خان بالسعى لـ اعتقال نتنياهو وجالانت وزير دفاعه جميعها تتعلق بحرب غزة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقال مسئول إسرائيلي استخباراتي سابق ان شبح الملاحقات القضائية في لاهاي دفع المؤسسة العسكرية والسياسية في تل ابيب الى اعتبار ان الهجوم المضاد ضد الجنائية الدولية "حرب لابد من شنها لبقاء إسرئيل".
ووفقا للصحيفة، بدأت تلك "الحرب" في يناير 2015، عندما تم التأكيد على انضمام فلسطين إلى المحكمة بعد أن اعترفت بها الجمعية العامة للأمم المتحدة كدولة وقد أدان المسؤولون الإسرائيليون انضمامها باعتباره شكلاً من أشكال "الإرهاب الدبلوماسي".
رسالة تهديد تسلم باليد
بالنسبة إلى فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للجنائية الدولية، فإن انضمام فلسطين إلى المحكمة جلب معه قرارا بالغ الأهمية. فبموجب نظام روما الأساسي، المعاهدة التي أنشأت المحكمة، لا تستطيع المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها القضائي إلا على الجرائم التي تقع داخل الدول الأعضاء أو التي يرتكبها مواطنون من تلك الدول وبعد قبول فلسطين كعضو أصبحت أي جرائم حرب مزعومة - يرتكبها أشخاص من أي جنسية - في الأراضي الفلسطينية المحتلة تقع الآن ضمن اختصاصها.
في 16 يناير 2015، في غضون أسابيع من انضمام فلسطين، فتحت بنسودا فحصًا لما أطلق عليه في القانون القانوني للمحكمة "الوضع في فلسطين". وفي الشهر التالي، ظهر رجلان تمكنا من الحصول على العنوان الخاص للمدعي العام في منزلها في لاهاي.
وقالت مصادر مطلعة على الحادث إن الرجال رفضوا التعريف عن أنفسهم عند وصولهم، لكنهم قالوا إنهم أرادوا تسليم رسالة إلى بنسودا نيابة عن امرأة ألمانية مجهولة تريد شكرها. وكان المظروف يحتوي على مئات الدولارات نقدا ومذكرة تحمل رقم هاتف إسرائيلي.
وقالت مصادر مطلعة على مراجعة المحكمة الجنائية الدولية للحادث إنه في حين أنه لم يكن من الممكن التعرف على الرجال، أو تحديد دوافعهم بشكل كامل، فقد خلص إلى أن إسرائيل من المرجح أن ترسل إشارة إلى المدعية العامة بأنها تعرف مكان إقامتها وقامت بتركيب كاميرات المراقبة في منزلها.
مراقبة البريد الإلكتروني والمكالمات
وقالت خمسة مصادر مطلعة للجارديان إن المخابرات الاسرائيلية تتجسس بشكل روتيني على المكالمات الهاتفية التي تجريها بنسودا وموظفوها مع الفلسطينيين. وبعد منعها من قبل إسرائيل من الوصول إلى غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، اضطرت المحكمة الجنائية الدولية إلى إجراء الكثير من أبحاثها عبر الهاتف، ما جعلها أكثر عرضة للمراقبة، وقالت المصادر إنه بفضل وصولهم الشامل إلى البنية التحتية للاتصالات الفلسطينية، تمكن ضباط المخابرات من التقاط المكالمات دون تثبيت برامج تجسس على أجهزة مسؤول المحكمة الجنائية الدولية.
وقال أحد المصادر: "إذا تحدثت فاتو بنسودة إلى أي شخص في الضفة الغربية أو غزة، فإن تلك المكالمة الهاتفية ستدخل إلى أنظمة الاعتراض". وقال آخر إنه لم يكن هناك تردد داخليا بشأن التجسس على المدعي العام، مضيفا: "مع بنسودا، هي سوداء وإفريقية، فمن يهتم؟"
ووفقا لمصدر إسرائيلي، فإن لوحة بيضاء كبيرة في إدارة المخابرات الإسرائيلية تحتوي على أسماء حوالي 60 شخصاً تحت المراقبة نصفهم من الفلسطينيين ونصفهم الآخر من بلدان أخرى، بما في ذلك مسؤولون في الأمم المتحدة وموظفون في المحكمة الجنائية الدولية.
وأصبح المسؤولون أيضًا على علم بتهديدات محددة ضد منظمة غير حكومية فلسطينية بارزة، "الحق"، والتي كانت واحدة من عدة مجموعات حقوقية فلسطينية قدمت معلومات بشكل متكرر إلى تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، غالبًا في وثائق مطولة تشرح بالتفصيل حوادث تريد المدعي العام أن يأخذها في الاعتبار.
وبعد سنوات، بعد أن فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا كاملاً في قضية فلسطين، صنف جانتس مؤسسة الحق وخمس مجموعات حقوقية فلسطينية أخرى على أنها "منظمات إرهابية"، وقالت المنظمات إن التصنيفات كانت بمثابة "اعتداء مستهدف" ضد أولئك الذين يتعاملون بنشاط مع المحكمة الجنائية الدولية.
تهديدات شخصية وحملة تشهير
بين أواخر عام 2019 وأوائل عام 2021، كثف مدير الموساد، يوسي كوهين، جهوده لإقناع بنسودا بعدم المضي قدمًا في التحقيق وبدأت اتصالات كوهين مع بنسودا وفي إحدى اللقاءات الأولى، فاجأ كوهين بنسودا عندما ظهر بشكل غير متوقع في اجتماع رسمي عقده المدعي العام مع رئيس جمهورية الكونجو الديمقراطية آنذاك، جوزيف كابيلا، في جناح فندق في نيويورك.
وقالت مصادر مطلعة على الاجتماع إنه بعد أن طلب من موظفي بنسودا مغادرة الغرفة، ظهر مدير الموساد فجأة من خلف الباب في كمين تم التخطيط له بعناية.
وبعد الحادث الذي وقع في نيويورك، أصر كوهين على الاتصال بالمدعية العامة، وظهر فجأة وأخضعها لمكالمات غير مرغوب فيها. وقالت المصادر إنه رغم أن سلوك كوهين كان وديًا في البداية، إلا أنه أصبح تهديدًا وترهيبًا بشكل متزايد.
وقالت ثلاثة مصادر مطلعة على أنشطة كوهين إنهم فهموا أن رئيس المخابرات حاول تجنيد بنسودا للامتثال لمطالب إسرائيل خلال الفترة التي كانت تنتظر فيها حكما من الغرفة التمهيدية، وقيل إن كوهين أدلى بتعليقات حول أمن بنسودا وتهديدات مستترة حول العواقب على حياتها المهنية إذا واصلت العمل.
خان يعلن أوامر الاعتقال
بحلول نهاية الأسبوع الثالث من القصف الإسرائيلي على غزة، كان مدعي عام الجنائية الدولية كريم خان على الأرض عند معبر رفح الحدودي. وقام بعد ذلك بزيارات إلى الضفة الغربية وجنوب إسرائيل وفي فبراير 2024، أصدر بيانًا شديد اللهجة فسره المستشارون القانونيون لنتنياهو على أنه علامة مشؤومة. في منشوره على اكس، حذر في الواقع إسرائيل من شن هجوم على رفح، حيث كان يلجأ إليها أكثر من مليون نازح في ذلك الوقت.
وكتب: "إنني أشعر بقلق عميق إزاء القصف والتوغل البري المحتمل للقوات الإسرائيلية في رفح أولئك الذين لا يلتزمون بالقانون يجب ألا يشتكوا لاحقًا عندما يتخذ مكتبي الإجراء".
وأثارت هذه التصريحات قلقا داخل الحكومة الإسرائيلية حيث بدت وكأنها تحيد عن تصريحاته السابقة بشأن الحرب والتي اعتبرها المسؤولون حذرة بشكل مطمئن. وقال مسؤول إسرائيلي كبير: "تلك التغريدة فاجأتنا كثيراً".
واعترضت المخابرات الإسرائيلية رسائل بريد إلكتروني ومرفقات ورسائل نصية من خان ومسؤولين آخرين في مكتبه. وقال مصدر استخباراتي: "إن موضوع المحكمة الجنائية الدولية تسلق سلم أولويات المخابرات الإسرائيلية".
تقييم استخباراتي إسرائيلي آخر، تم تداوله على نطاق واسع في مجتمع الاستخبارات، استند إلى مراقبة مكالمة بين اثنين من السياسيين الفلسطينيين. وقال أحدهما إن خان أشار إلى أن طلب إصدار أوامر اعتقال بحق زعماء إسرائيليين قد يكون وشيكاً، لكنه حذر من أنه "يتعرض لضغوط هائلة من الولايات المتحدة".
وعلى هذه الخلفية، أدلى نتنياهو بسلسلة من التصريحات العامة التي حذر فيها من أن طلب إصدار أوامر اعتقال قد يكون وشيكاً. وفي الوقت نفسه، عززت المحكمة الجنائية الدولية أمنها من خلال عمليات تفتيش منتظمة لمكاتب المدعي العام، وعمليات فحص أمني للأجهزة، ومناطق خالية من الهواتف، وتقييمات أسبوعية للتهديدات، وإدخال معدات متخصصة.
وقال متحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية إن مكتب خان تعرض "لعدة أشكال من التهديدات والاتصالات التي يمكن اعتبارها محاولات للتأثير بشكل غير مبرر على أنشطته".
وعلى الرغم من الضغوط، اختار خان، مثل سلفه في مكتب المدعي العام، المضي قدمًا وفي الأسبوع الماضي، أعلن خان أنه يسعى لإصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت إلى جانب ثلاثة من قادة حماس بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.