نواصل معا سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "كبار الملاك والفلاحين فى مصر 1837–1952" لكل من الدكتور رءوف عباس والدكتور عاصم الدسوقى، فما الذى جاء فى مقدمة الكتاب..
مقدمة..
تُعَدُّ دراسة الملكية الزراعية محور اهتمام كل مَن يعكفون على دراسة التاريخ الاجتماعي للبلاد النامية على وجه الخصوص، على اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية.
وفي معظم الدراسات الخاصة بتطور المجتمعات النامية، والمحاولات التي بُذلت لتفسير أنماط تطورها، كثيرًا ما تأتي مصر في مقدمة البلاد التي يُضرب بها المثل للانتقال من نمط إنتاجٍ شبه إقطاعي (متخلف)، إلى نمط إنتاجٍ رأسماليٍّ (حديث).
ويستوي في ذلك أصحاب فكرة "نمط الإنتاج الآسيوي"، أو فكرة "الاستبداد الشرقي"، أو فكرة "نمط الإنتاج الخَراجي"، أو فكرة "التحديث".
كبار الملاك
وغالبًا يبحث هؤلاء وأولئك عن قسمات مشتركة — يُجهدون أنفسهم في تحديدها — تجمع بين مصر وغيرها من المجتمعات الزراعية النهرية كالهند والصين، ويتجاهلون الحقائق التي تُثبت أن لكل مجتمعٍ سياقًا خاصًّا لتطوره يختلف عن غيره من المجتمعات، وإن تشابهت بعض الملامح — هنا وهناك — تشابهًا جزئيًّا بين كل مجتمعٍ وآخر من تلك المجتمعات، فلكلٍّ خصوصيته التي تنبع من ظروفه البيئية وتحدد مسار تجربته، فأنماط التطور تتعدد وتتنوع تبعًا لتباين ظروف وسياق التطور في كل مجتمعٍ من المجتمعات.
ومن هنا جاء اهتمامنا بدراسة التطور الاجتماعي لمصر الحديثة من خلال الدراسة المجهرية للملكيات الزراعية الكبيرة ودورها في المجتمع المصري، منذ بدأت الخطوة الأولى في اتجاه إرساء حقوق الملكية الفردية للأرض الزراعية عام ١٨٣٧م، مرورًا بالتغيرات التي تَلَت الاستقرار النهائي للملكية الفردية عام ١٨٩١م، حتى صدور قانون الإصلاح الزراعي على يد ثورة يوليو ١٩٥٢م. وكان مبعث اهتمامنا بهذا الموضوع، التوصل إلى تفسير لتطور مصر الاجتماعي خلال فترة الدراسة من واقع المادة الوثائقية وغيرها من المصادر الأولية، ومن خلال إعادة تركيب الظاهرة، والبحث عن عوامل الحركة فيها، ثم تفسير تطور المجتمع المصري في إطارها، دون التقيد المسبق بقالبٍ نظريٍّ معيَّن، لإيماننا أن النظرية السليمة إنما تنبع من الدراسة الدقيقة المتأنية للظاهرة في سياقها التاريخي، ولا تسبقها. ولا يعني ذلك أننا طرحنا جانبًا جميع الأُطُر النظرية، فلم نعرها اهتمامًا، وإنما جاءت دراستنا مبنيةً على المعرفة التامة بتلك الأُطُر التي استفدنا بها عند تحليل المادة التاريخية. وسوف يتضح للقارئ الكريم أننا استخدمنا الأدوات المنهجية الخاصة بمدرسة التفسير الماديِّ للتاريخ التي نرى مصداقيتها في ميدان التاريخ الاجتماعي على وجه الخصوص.
وهذا الكتاب ثمرة دراسة عميقة متأنية تمَّت في إطارٍ منهجيٍّ واحد، وكان في الأصل أُطروحتين للدكتوراه أُجيزتا في كلية الآداب، جامعة عين شمس، اقتسمتا فترة الدراسة على أساسٍ زمني، فتوقفت الأولى عند ١٩١٤م، لتستكمل الثانية الدراسة حتى ١٩٥٢م. وأُتيحَ لكلٍّ من الأُطروحتين فرصة النشر في أوائل السبعينيات، ولقيا اهتمامًا كبيرًا من جانب الأوساط العلمية في مصر وخارجها، ويندر أن نجد دراسةً لتاريخ مصر خلال الفترة تغفل الرجوع إليها.
وكثيرًا ما داعبت المؤلِّفَين — اللذَين تجمعهما صداقة وزمالة تزيد على الأربعين عامًا — فكرة تأليف كتابٍ واحدٍ يرتكز على الأُطروحتين، فحالت ظروف العمل وتشعُّب الاهتمامات العلمية دون الإقدام على هذه الخطوة، حتى لقي المؤلِّفان تشجيعًا خاصًّا من صديقهما الدكتور بيتر جران (أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تمبل بالولايات المتحدة الأمريكية)، فقد رأى أن مكتبة دراسات الشرق الأوسط العالمية تحتاج إلى أن يكون الكتاب مُتاحًا باللغة الإنجليزية للمهتمين بدراسة تاريخ مصر الاجتماعي، وجاءت المبادرة من جانب قسم النشر بجامعة سيراكيوز بالولايات المتحدة، الذي تعاقد مع المؤلِّفَين عام ١٩٩٧م لنشر الكتاب باللغة الإنجليزية تحت عنوان «كبار المُلاك والفلاحين في مصر ١٩٣٧–١٩٥٢م".
ورغم ما للنشر باللغة الإنجليزية من أهميةٍ كبيرةٍ في جعل الكتاب مُتاحًا لدائرة متسعة من القرَّاء، إلا أن المؤلِّفَين رأيا أن يضعا الكتاب في طبعةٍ عربية، من واقع إيمانهما بأن القارئ العربي يجب أن يكون أول مَن يتلقَّى ثمرة جهدهما، ومن هنا جاءت فكرة إصدار هذه الطبعة العربية من الكتاب.
ويودُّ المؤلِّفان بهذه المناسبة أن يتوجها بالشكر إلى الأستاذ الدكتور بيتر جران، وإلى القائمين على قسم النشر بجامعة سيراكيوز لتشجيعهم لهما على إخراج هذا العمل بصورةٍ حقَّقت حُلمهما القديم. ويسعدهما أن يُعربا عن اعترافهما بفضل الأستاذَين الكبيرَين؛ المرحوم الدكتور أحمد عزت عبد الكريم والدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، لما قدَّماه لهما من توجيهٍ سديد. كذلك يتوجه المؤلِّفان بالشكر إلى القائمين على أمور دار المحفوظات العمومية بالقلعة، ودار الوثائق التاريخية القومية، ودار الكتب المصرية، ومكتبات جامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والجمعية الجغرافية المصرية، والمجمع العلمي المصري، وأرشيف هيئة الإصلاح الزراعي، على ما قدَّموه لهما من عونٍ عند إعداد أُطروحتَيهما التي وُضع هذا الكتاب على أساسهما.