مع بداية رواية "تاريخ آخر للضحك" للروائي الصيني ليو جين يونغ، الصادرة عن بيت الحكمة من ترجمة أحمد السعيد ويحيى مختار، يدرك الراوي، روائي فقد حلم الغناء، مدى تهميش شخصية العم السادس، فيقدم سردية لطفولته، توازي النص ذاته لتقدم تلك الشخصية، قائلاً أنه سمي الابن السادس، فتحول للعم السادس، فقد عمله في فرقة غنائية؛ لظهور التلفاز، رمز الحداثة والرأسمالية التي التهمت أحلام كل الفرقة الغنائية، وحولت شخصية العم السادس لذات تحاول البحث عن معنى لثنائية الحزن/ الضحك بين ركام اللا جدوى.
ذلك البحث المتجلي بتصور العم السادس لفعل الفن، كتحوبل تصور خاص للحياة وتعرية مجتمعه لتصور إبداعي بحثاً عن معنى، ذلك التهميش يبتلع مدينة حزينة، تنبض بالحياة والسرديات، فيقدم النص مستوى سردي آخر برواية تحاكي لوحات العم السادس، تعنى بتلك المدينة، يانجين، ليس فقط كمسرح للأحداث؛ فالتهميش يساعد في طرح نص يحتفي بالسرديات العديدة الملائمة بهامش، مثل الفصل الثاني من النص الموازي تسعى شخصية فقيرة تعمل كبائع للمخللات والبوفو والخضروات لتحقيق مفهوم السعادة بتخلصها من شبح، فتهيمن عليها القدرية، ذلك المفهوم الرابض بكل شخوص النص كثنائية مع مفهوم السعادة، فعل الترميز ذلك في البحث عن السعادة يهب النص سرديات عديدة في سعي الشخصية للاقتراض من أي من أهل المدينة، ما يعيد بناء عدة مفاهيم فلسفية وإنسانية.
تحرق زوجة العم السادس لوحاته بدلاً من النقود المزيفة، تلك العادة الصينية عندما تحرق أوراق مالية مزيفة كتعبير عن إرسال أموال للميت في العالم الآخر، تمثيلاً لجدوى الفن، كثروة وحيدة لرجل مهمش، تنتهي به الحياة مكتئبًا بعدما بحث عن السعادة وموقعها من الحياة، حتى يتناوب الكاتب الضمني بين إيقاع سردي حزين/ سعيد في تناوله لسيميائية لوحاته؛ ففي إحدى اللوحات يرسم طفل يركض على سكة حديدية؛ لركوبه قطار خطأ، فوقه طائرة ورقية، وخلفه بقرة مفترسة، كتمثيل للحياة وتضفيرها مع أحلام الإنسان الضائعة وتسلطها ومفهوم السعادة، تمهيداً للنص الموازي.
تتلبس البنية الروائية للنص فعل التعرية، الذي يمارسه على مستويات عدة، بدئًا من تعرية المفاهيم الإنسانية والفلسفية، وتعرية المجتمع بتعرية مروياته الشفهية، وهي ممارسة خاصة لثنائية الخاص والعام، وحتى تعرية النص ذاته، فيفصح النص عن ذاته كونه محاكاة للفن، في مفهومه المجرد، محاكاة لما يصوره من الحياة اليومية للمجتمعات، مبتعثًا من تعرية مفاهيم، كتلك التي يبدأ بها النص الموازي، الرواية التي يكتبها الراوي محاكاةً للوحات العم السادس، لمروية شبح تحولت لجبل إثر الشوق، تنتظر النكات، لا تقدر على التحرك.. هنا يؤكد النص طرحه لمفهوم السعادة وإعادة بناء مفاهيم كاللذة والشوق والعشق والموت، ومع توالي فصول المستوى السردي الثاني للنص وتشظي مروياته، تتجلى مفاهيم كالسلطة والقدرية، منطلقًا استقراء تلك المفاهيم من مركزية السعادة، مبتعثة من طرح مروية شعبية تُعنى بالسيرة الشفهية لمجتمع مغلق، ففي الرواية الموازية للنص يظهر مفهوم السلطة في الاستنساخ وتعدد الحيوات فيقدم الراوي العليم سرديته حول دجال يستقرأ الأقدار « سأله بعض الناس: هل يُعقل ألا يكون من بين هؤلاء أناس كانوا في الأصل بشرًا في حياتهم السابقة؟ رد: نعم هناك، قو باوتشن، الذي يكنس الشوارع عند التقاطع، كان جده حاكمًا عسكريًا خلال السنوات الأولى لتأسيس جمهورية الصين»، هنا، بشاعرية تعنى بذاتية وطن ومجتمع، يتجلى تصور عام لعلاقة الإنسان بالذنب والندم، ما قد ينغص عليه سعادته، كما حدث مع إحدى شخوص النص المركزية والمحورية، الذي رأى أنه تسبب في انتحار زوجته، كذلك يمارس النص تشييده لثنائيات تتضاد فيها مفاهيم أخرى مع السعادة، بحثاً عن ذلك المفهوم، فينبثق من الحكي الشفهي و العلاقات الإنسانية التي يرصدها الراوي العليم بشاعرية تصور للسعادة كنقيض الفقد والندم والفقر والملل، ويمارس النص تضمين مقاطع سردية توازي تصور الكاتب لتلك المفاهيم، كالإشارة لمفهوم الفقد بجملة منقوشة ببرج، «غادر الأسلاف راكبين فوق طائر الكركي الأصفر، وبقي برج طائر الكركي الأصفر هنا مهجورًا» ، تلك الجملة التي يأولها من مارسوا تجربة الفقد فقط، كإشارة ترميزية لثنائية الفقد والسعادة، وكإشارة، أيضاً ، لبنية العلاقة الإنسانية والاجتماعية بين شخصية الزوجين تشن تشانغ جيه وزوجته الثانية، اللذين عايشت تجربة الفراق بانتحار زوجة تشن تشانغ جيه، وتحول زوجته الثانية لأرملة بعد وفاة زوجها.
.. يقدم المستوى الثاني للسرد، الرواية المحاكية لوحات العم السادس، مروية تقوم بنيتها على السيرة الشفهية، لتشكل مروية شعبية تتأثر بالتاريخ الشعبي والشفهي للصين، مكونًا تصور "ما بعد الحداثة" للغرائبية، ليس فقط من خلال التشظي السردي، فنرى تأثير الحكاية الشعبية في النص، مستلهمةً من لوحات العم، الكائن إياها المشهد كوحدة تنصهر فيها الوجوه بحثاً عن معنى وسط ركام لا جدوى الفن وفهم الترميز، فيهب الكاتب استقراء ترميز لوحات العم في الجزء الأول من النص الحركة، حركة تنطلق من الحكاية في مفهومها المجرد، الحكاية كمحض أسطورة شعبية تتحول لوجوه، بشر كل منهم له فضاء دلالي.
.. بتعرية النص لذاته كمحاكاة للوحات، وبنيته المتسمة بـ "ما بعد الحداثة" يطرح استقراء للفن، ككل، متجليًا في ذاتيه وتأثيره في الجزء/ الفصل الثاني من المستوى السردي الثاني والنص الموازي، فيتأثر صانعو مسرحية "الأفعى البيضاء" بمسرحيتهم، حتى يعيشوا حياة توازيها، وتحاكيها، يتلون بحياتهم الواقعية جملتهم بالمسرحية "ماذا نفعل؟ “، تلك الجملة السردية الباعثة إيقاع شاعري بالنص، له بناء دلالي ينصهر مع إعادة تقديم مفهوم القدرية، وظهور شخصية الدجال، والبحث عن أقدار زواره، ومنذ بداية النص البحث عن أقدار كل أعضاء الفرقة، الذي استوحى منهم الروائي روايته، كذلك تحاكي حيوات أبطال المسرحية عملهم الفني، "الأفعى البيضاء"، في رحلتهم الترميزية لتحقيق السعادة، حتى بعد موت ينغ تاو تقدم مع روم أخرى تمثيلاً لذلك العمل الفني، ما يدفعها لخلق ما يشبه التناص والتماثل بين سعيها وسعي يانشنج لتحقيق سعادتهم، بين ثنائية الموتى/الأحياء، وبين اتحاد البحث عن السعادة.
الإفصاح عن ما بعد الحداثة يبعث فعل التشظي في البنية الروائية للنص الموازي، رواية الراوي، مشكلةً ثنائية مع المستوى السردي الأول للنص، بين الكلاسيكية والحداثة، ما يقدم تلبس للبنية القصصية بالنصين، رغم كونهم ثنائية، يمثلوا تناصًا في مشاعر الكاتب الضمني وإيقاع النص، المتيم بشاعرية تتأثر بالمحلية، قبل حتى التأثر بالترميز، وهو ما يدركه المترجم، أحمد السعيد ويحيى مختار، ممارسًا فعل إبداعي في الترجمة بإدراكه لإيقاع النص وبنيته، فيضيف مثل مصري شفهي هو "من خارج من داره قل مقداره" في أحد مقاطع النص السردية، ليتحد فعل الترجمة والتأليف كنقيض للثنائية، بحثاً عن السيرة الشفهية والمرورية الشعبية.. أيضاً، النص يمارس إعادة تقديم مفهوم الذاتية في الفن، فالرواية الكائنة بالنص هي محض هامش لتجربة فنان سابقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة