نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف عند "التراث الخفي الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية" للشاعر والباحث فتحي عبد السميع والصادر حديثا عن دار وعد، فما الذي يقوله في المقدمة:
نحن هنا نتوقف عند جزء من المقدمة ولن نورد المقدمة كلها:
التراث الخفي: مقدمة
أولا : حكاية التراث الخفي
(1) اين أحجار المعبد المهدم؟
لا يبدأ التراث غالبًا من لا شيء، وكثيرا ما يكون كحجارة المعبد التي تم نقلها لبناء معبد آخر يخص ديانة أخرى، وتبقى الحجارة القديمة محملة بمدونات أو رموز يتم طمسها بملاط جديد وكتابة مدونات أخرى عليها، وهكذا تصبح تراثا خفيا، يواجه صعوبات كثيرة كي يظهر، مثل تحريره من الملاط الجديد بما عليه من مدونات، ثم إعادة تجميع الحجارة من جديد؛ لأنها تفرقت وقت الهدم والنقل وإعادة البناء، وكثيرا ما تهلك بعض الحجارة وتصبح ترابًا أثناء تلك العمليات الثلاث، ومن ثم تُعد عملية إعادة تجميع تلك الحجارة غاية في الصعوبة.
لقد خطوت خطوة في هذا الاتجاه من خلال كتابي "وجوه شهريار: الحكاء والحكاء الآخر"، عندما تناولت رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وقدمت قراءة لها في ضوء التراث المسيحي، وكشفت عن الشخصيات المسيحية التي تختفي خلف شخصيات الرواية، مثل شخصية المسيح عليه السلام التي تختفي خلف شخصية سعيد مهران وشخصية يهوذا الاسخريوطي التي تختفي خلف شخصية الصحفي رؤوف علوان، وشخصية مريم المجدلية التي تختفي خلف شخصية نور الداعرة، وشخصية بطرس الرسول التي تختفي خلف جمل وعبارات معينة.
ويأتي هذا الكتاب استكمالاً لما طرحته في كتاب "وجوه شهريار: الحكاء والحكاء الآخر"، حيث تشغلني دائما فكرة التراث الخفي، أو التراث الذي ينتقل من جماعة قديمة إلى جماعة أخرى تؤمن بدين مختلف تماما، ومع ذلك ينجح التراث القديم في البيئة المعادية له.
يثيرني البحث الذي يتطلب مغامرة، أو يمشي في طرق جديدة ومظلمة، ربما لأنني دخلت مجال البحث بعد عمر في كتابة الشعر، وتعجبني في البحث متعة البحث وجدواه الثقافية، ونجاحه في تقديم أسئلة جديدة، وفي هذا البحث وغيره، لا أفتخر بأي إجابة، وأعتبر كل تحليلاتي مجرد أسئلة تأخذ شكل التحليلات، وهدفي الأساسي من هذه المغامرة هو الدعوة إلى التفكير في التراث ومراجعته، والأسئلة الجديدة هي أفضل محرض في تقديري لتلك المراجعة.
(2) أقدم قصص الحب في التاريخ
كي أوضح فكرتي عن التراث الخفي سوف أستدعي هنا واحدة من أشهر الحكايات الإنسانية المقدسة، ويرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الكتابة، وهي حكاية "إنانا ودوموزي" (تساوي تموز وسوف استخدم اسم تموز بسبب شهرته وسهولته) التي ثبتت أقدامها في ثقافة العراق القديم، لكنها تعرضت للكثير من محاولات الطمس بسبب التغيرات السياسية والدينية في بلاد الرافدين، وصولاً إلى طمسها تماما مع انتهاء حضارة العراق القديم، ثم عودتها إلى الظهور بفضل علم الآثار الحديث ودخولها الثقافة العربية بقوة من خلال حركة شعرية كبيرة ظهرت في القرن العشرين وهي حركة الشعراء التموزيين.
تعتبر حكاية إنانا "من أقدم قصص الحب في التاريخ، ولم يكن تموز وإنانا وجهين مثاليين ونموذجين سماويين النساء سومر ورجالها، فحسب، بل كانا أيضا رمزين إلهين للعملية الجسدية التي تهب السعادة والمتعة، وكان سكان سومر يتوجهون بالدعاء إلى إنانا بوصفها الإلهة التي : تفتح أرحام النساء".
لقد شغلت حكاية إنانا وتموز العالم القديم بأكمله، وكانت نموذجا رفيعا لحكايات الحب والجمال، وهي تنقسم إلى قسمين رئيسيين الأول مملئ بالبهجة والسعادة، ويدور حول حكاية عشق عنيف تكللت بالزواج المقدس، أما القسم الآخر فهو حزين جنا، لأنه يعالج أحداث موت العاشق تموز، ونزوله إلى العالم السفلي.
لا يوجد نص يحتوي على الحكاية بشكل كامل، ولا شك أنه كان موجودا واختفي في طيات القرون، ربما تفصح عنه الحفائر في يوم ما، وربما تحولت المادة المكتوب عليها إلى تراب، لكن الجهود الأثرية كشفت عن عدد من قصائد الزواج المقدس و أناشيده، ويصل عددها إلى اثنتي عشرة قصيدة تمثل أقدم قصائد الحب في التاريخ القديم، وأعذبه، وهي ما تزال إلى يومنا محتفظة بعذوبتها وجمالها.
تدور القصائد حول مراحل أو أوجه من الحياة التي يعيشها تموز وإننا أثناء الزواج المقدس وبعده، وهناك قصيدة تشير إلى تعرض تموز الموت على يد اعدام خارج أسوار المدينة، لكن إننا أنقذته، ويمكن أن تكون هذه الحادثة هي السبب في حبهما. ثم زواجهما، وفي قصيدة أخرى نجد إشارة تدل على أن إنانا كانت إلهة بينما لم يكن تموز كذلك، وهو ما يدعم القول بأن تموز كان بشرا ولكنه كإله.
بعد النهاية السعيد الحكاية العشق الكبير، أفكر إننا في الاستيلاء على العالم المطلي الذي تحكمه شقيقتها التجمع في يدها العالمين، العلوي والمطلي، وحين تهم بالذهاب. إلى هناك يطلب منها حارس أبواب العالم السفلي أن تمتثل لقوانين هذا العالم، وأن تخلع في كل باب من أبوابه السبعة شيئًا تلبسه أو تتزين به، وهكذا عندما تدخل الباب السابع، يتم إحضارها مجردة وعريانة وجالية على ركبتها إلى عرش أختها ارشكيجال ملكة العالم السفلي، تنظر إليها نظرة الموت، فتموت إنانا وتعلق جثتها على عمود منتصب وفي رواية أخرى تجد نفسها أمام شقيقتها والـ "الأنوناكي". قضاة العالم السفلي السبعة الرهيبين الذين ثبتوا عليها أنظارهم المسيئة فاستحالت جثة، وغدت مدلاة بعدئد من وتد.
وكانت إنانا قد أوصت حكامها الأربعة، ومنهم تموز، أنها إذا غابت لأكثر من ثلاثة أيام فعليهم أن يحزنوا ويمرغوا أنفسهم في التراب، وطلبت من وزيرتها "نتشوير" وفي رواية من وزيرها، أن تذهب إلى الآلهة ليخلصها أحدهم من الموت، فتقوم الوزيرة فعلاً بزيارتهم ويساعدها الإله "إنكي"، حيث يرسل إلى إنانا مخلوقين برشان عليها "طعام الحياة"، و"ماء الحياة"، فتستيقظ إدانا، ولكنها لكي تخرج كان يجب أن تقدم بديلا عنها، كما تقضي بذلك قوانين العالم السفلي، وهكذا تخرج بصحبة جند العالم السفلي الـ "الكالو" لكي تأتي ببديلها.
تذهب إنانا إلى مثلها الأربع، فتجد أن حكام هذه المدن قد حزنوا من أجلها، ووضعوا التراب على رؤوسهم إلا تموز، كان يلبس الملابس الزاهية، ويجلس على العرش العظيم، فأمرت شياطين "الكالا المرافقين لها بالقبض عليه بديلاً عنها، وهنا طلب تموز من الإله "أوتو" أن يحوله إلى أفعى كي يهرب، ويقوم تموز وأخته وصديقه بالصعود إلى التل والنظر إلى الطريق، وإذا بهم يرون شياطين الكالا قادمين ويحملون خشبة لتغييد الرقبة، فيختبئ تموز، ويقوم الشياطين بتعذيب شقيقته كي تعترف بمكان اختفائه، لكنها ترفض، ثم يقومون بإغواء صديقه بالحبوب فيعترف بمكانه، وهكذا قبضوا عليه، وصار يصرح "شقيقتي أنقذت حياتي.. صديقي سيب موتي"، على نحو يذكرنا بخيانة يهوذا للمسيح، وحين أحاط الشياطين بتموز وانهالوا عليه ضربا رفع تموز يده إلى الإله "أوتو" ليحوله إلى غزال، فاستجاب وهرب تموز إلى بيت عجوز، فصيت له الماء ليشرب، والطحين ليأكل، ثم غادرت البيت. ويبدو أنها أخبرت شياطين الكالا بمكانه ويذكر هذا المقطع بالعشاء الأخير للسيد المسيح.
وحين هجم عليه الكالا" هرب منهم إلى حظيرة أخته، فلحقوه هناك وضربوه وحطموا الحظيرة، وخلعوا عن جسده رداء الـ "مي" وهو رداء النواميس الإلهية المقدسة، وخلعوا تاجه المقدس (لنتذكر حكاية المسيح) وسقط صولجانه المقدس على الأرض وخلعوا نعليه المقدسين ومضى عاريا معهم، وعندما رأتهم شقيقته (کشتن انا) بكت وحمشت عينيها وفمها وفخذيها، وهكذا ذهب معهم إلى العالم السفلي بديلا عن إنانا.
كانت إنانا تجسيدا للخصب في مظاهر الطبيعة المختلفة، وكان الإله تموز تجسيدا للقوة الخلاقة التي تبعث الحياة في تلك المظاهر أثناء الربيع عندما يظهر العشب وينمو الزرع، وتتكاثر الماشية وهذا الإله يموت ويؤخذ إلى العالم الأسفل، وبالطبع لم يكن معقولاً أن يموت تموز إلى الأبد، إذ لو حصل ذلك لاختفت كل مظاهر الحياة والتجدد على الأرض، إذا كم يلبث تمور في رحلته إلى عالم الأموات؟
توجد أقوال مختلفة في هذا الشأن، إذ يفهم من بعض الإشارات التي ترد أحيانا في النصوص المسمارية، أنه ربما كان يبقى هناك ثلاثة أيام وثلاث ليالي، ويفهم من بعضها الآخر أنه يمكث هناك ثلاثين يوما، ومن بعضها أنه يموت نصف سنة ثم يخرج من عالم الأموات، ومهما كانت المدة في تقديري فهي ترتبط باختفاء رمزي لمظاهر الخصوبة، وهذا الاختفاء يختلف من مكان إلى آخر، ومن أحوال إلى أخرى.