ربما يكون الجيل العابر للتكنولوجيا محظوظًا، لأنه عبر بكل هذه التطورات التقنية، والتي بدأت بالإذاعة، "صندوق الدنيا" الناطق الذى يبث السحر ويشعل الخيال، قبل ظهور التليفزيون كانت الإذاعة قادرة على صناعة السحر والخيال، بما تقدمه من برامج ودراما، تستخدم كل حيل المؤثرات لتشعل الخيال، بجانب الأغاني والذكريات والبرامج الثقافية وأصوات المطربين والمثقفين.
هناك جيل ارتبط بالإذاعة ومسلسل الخامسة والربع، وإذاعة أم كلثوم، أو الأغاني التي كانت تبث من الخامسة وينتظرها الملايين في كل مكان، أو ينتظرون رمضان ليستمتعوا بالشيخ رفعت والنقشبندى، ويشتعل خيالهم بألف ليلة وليلة، ومغامرات وأساطير تمشى بينهم.
لم تكن الإذاعة مجرد صندوق ساحر، لكنها كانت نافذة الناس لمعرفة كل شيء خاصة هؤلاء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، تقدم لهم الأخبار والبرامج والأغاني والمسلسلات والسهرات، كانت بوابة الناس على العالم والمعرفة والفنون، أجيال كانت تتلقى كل معارفها من الصندوق الساحر على مدى عقود، حتى ارتفعت نسب القراءة والكتابة، بما كان يقدمه الراديو من برامج تعليمية، أغنية برنامج محو اﻷمية فى السبعينيات، اﻷستاذ عبد البديع قمحاوى.. "يا أهل بلدى فى كل مكان.. م المنزلة لغاية أسوان.. يلى اتحرمتوا من التعليم الفرصة لسه قدامكوا.. من غير ما تغرموا وﻻ مليم إذاعتنا جاية تعلمكوا".
اليوم أكملت الإذاعة المصرية عامها التسعين، في 31 مايو 1934، تم فيه تمصير الإذاعة التي لم تتوقف عن البث منذ أن انطلقت بنداء "هنا القاهرة"، بصوت المذيع أحمد سالم الذي ظل يصافح آذان المستمعين عقودًا طويلة، ظلت الإذاعة - بأصوات المذيعين والمقرئين والمثقفين والفنانين - هي المصدر الأهم للمعرفة والتسلية والفن والثقافة، لكل هؤلاء الذين لا يعرفون القراءة، واليوم لا تزال الإذاعة المصرية شاهدة على عصر بل عصور من التحولات والفاعلات والتغيير، بقيت فيه شاهدة على أحداث وتفاصيل سياسية واجتماعية وفنية، وحتى في زمن المنصات والإنترنت، لا تزال تحمل القدرة على التفاعل مع الناس في السيارات والبيوت، تسلى عزلتهم وتفتح معهم حوارات متنوعة.
ظهرت الإذاعات بشكل تجارى 1920 وفى 1925 ظهرت محطات إذاعية أهلية، في شقق صغيرة فى الحى أو الشارع، بعدها ظهرت إذاعات أهلية تمول من الإعلانات مثل راديو فاروق، وراديو فؤاد، وراديو فوزية، وسابو، بعضها بالعربي والبعض باللغات الغربية للأجانب، وفى سنة 1926 صدر مرسوم ملكي لتنظيم بث الإذاعة، وفى 1932 افتتحت "محطة راديو الأمير فاروق"، لكن كانت المحطات يشغلها هواة، بعضها كان يذيع أى شيء حتى لو رسائل غرام، ويعلن عن بضائع أو يشتم ويعمل جرسة، ظلت فوضى، حتى تم افتتاح الإذاعة المصرية فى الخامسة والنصف يوم 31 مايو 1934، فى مبنى شهير فى 4 ش الشريفين حتى عام 1960 بعد افتتاح المبنى الحالي "ماسبيرو".
وبدأت الإذاعة بثها بصوت الشيخ محمد رفعت، ثم صوت الآنسة أم كلثوم، وغنى المطرب صالح عبد الحى، ثم محمد عبد الوهاب، وألقى حسين شوقى قصيدة لأمير الشعراء أحمد بك شوقى، وألقى على بك الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول، ثم فقرة للمونولوجست محمد عبد القدوس، وفقرات موسيقية من مدحت عاصم وسامى الشوا، ومع أحمد سالم كان المذيع محمد فتحي الذى عرف بلقب "كروان الإذاعة".
الإذاعة بداية ثورة نراها الآن بالألوان، العالم قبل الإذاعة يختلف عنه بعدها، تم تمصير الإذاعة 1947 وإلغاء عقد ماركونى، الآن ونحن أمام قنوات تليفزيونية ومسلسلات نتذكر أجدادنا حتى الثلاثينيات من القرن العشرين، قبل انتشار الكهرباء، يعيشون فى أضواء المسارج واللمبات الجاز، أو أضواء الكلوبات بعد ذلك والتى تعمل أيضًا بالكيروسين، وكان عدد قليل من الأثرياء يمتلكون الصندوق الساحر المسمى بـ الراديو أو الإذاعة، وتعمل بالبطاريات الجافة، وتبدو مثل كائن خرافى يصنع عالمًا خياليًا يوحى بما وراء الأشياء العادية.
الراديو أول ما ظهر كان سعره غاليًا وغير متاح لكل الناس، كانت المقاهي الكبيرة فقط فيها الراديو والناس تتجمع حوله، كان يعمل بالبطاريات السائلة، وبعد ذلك الجافة.. وهناك إعلانات عن الراديو في صحف الثلاثينيات بـ 25 جنيها، وهو ثمن فدان أرض وراتب الموظف 4 أو 6 جنيهات.. لهذا كان من يمتلك الراديو من الأغنياء، يتجمع عنده الناس لينصتوا لأصوات المقرئين، أو المغنين والمسلسلات والأحاديث، انتشر الراديو، شيئًا فشيئًا، قبلها كان مقتصرًا على المقاهى، أو دوار الأثرياء، يتجمع حوله الأهل والأقارب ليستمعوا إلى صوت المقرئين، أو أغاني المطربين، أو المسلسلات والتمثيليات التي شكلت مع الوقت قيمة كبرى ينتظرها الناس كل يوم، ويتم فيها استعمال المؤثرات الصوتية، التي تثير الخيال وتصنع أجواء من الإثارة والخوف أو الضحك.
وأصبح متوفرًا في الكثير من المنازل، قبلها كان الناس ينتظرون ابنًا أو جارًا يقرأ ويكتب، ليقرأ عليهم أخبار العالم، وقصص أو حكايات، لكن الراديو حل المشكلة، وأصبح جسرًا بين الإذاعة والأميين، ينصتون ويعرفون ويستمعون إلى كل شيء، وحتى مع أجيال عرفت التعليم المنتظم منذ الأربعينيات، ومع الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، من القرن العشرين كان الراديو هو رفيق الشوارع والبيوت والشبابيك، يسمعه الجميع فى كل وقت، القرآن فى الصباح، تتبعه البرامج والأغانى، والنصائح، والأخبار، يمكن أن يعرف الناس ما يجرى فى العالم، بل إن الصحف أصبحت أكثر انتشارًا مع الإذاعة حيث تتم قراءتها وشرح ما بها.
الإذاعة ظلت رفيق خيال وصانعة البهجة والمعرفة لعقود، ثم إذاعات متتالية بجانب البرنامج العام الشرق الأوسط وصوت العرب والشعب ومثل أحمد سالم وكروان الإذاعة عرف الناس أصوات نجوم الإذاعة الأطفال يعرفون بابا شارو، وأبلة فضيلة، والكل يعرف صفية المهندس وحسن شمس وبعدهما حكمت الشربينى وإيناس جوهر وإسعاد يونس وصلاح جاهين وسيد مكاوى ومحيى محمود وفهمى عمر ووجدى الحكيم وآمال فهمى وسناء منصور، و"كلمتين وبس" فؤاد المهندس، و"همسة عتاب" عبد الرحمن أبو زهرة، وعشرات النجوم، مع عالم خاص لقراء القرآن، والمبتهلين، الذين كانوا نجومًا، من الشيخ محمد رفعت، إلى مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، والحصرى، والشعشاعي، والبنا، والنقشبندى، والفشنى، وطوبار، وغيرهم، مع أصوات أم كلثوم، وعبد الوهاب، وحليم وعشرات الممثلين بأصوات يتم التعرف عليها، ومع مسلسل الخامسة يقف الجميع منتظرين الحلقة التي لا تتجاوز ربع الساعة.
لقد علمت الإذاعة أجيالاً من المصريين، ومنحتهم خيالاً وتسلية ومعارف في كل شيء، ويبقى هؤلاء الرواد، الذين أسسوها أو شاركوا في تقديم كل ما يفيد للجمهور، نجومًا وعلامات، وتبقى الإذاعة قبل عصر التليفزيون، والإنترنت، سحرًا وخيالا، ولا تزال تشاركهم حياتهم، بأصوات الأحفاد والأبناء، وهناك من لا يزال يعيش بصوته بالرغم من الرحيل، ومن يعيش بصوته وفعله كل شاب وشابة في الإذاعة يحمل جينات الأجداد المؤسسين.