نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع موسوعة السرد العربى لـ عبد إبراهيم، فما الذى تقوله المقدمة:
مقدمة:
لا يمكن دراسة السرد العربى، قديمه وحديثه، بدون الوقوف بالتفصيل على مجموعة من الأسس النظرية فى تحليله، والسياقات الثقافية الحاضنة له، أما النظرية، فلأنها تحدد طبيعة الرؤية النقدية التى اتبعت فى معالجة هذه الظاهرة الأدبية خلال تاريخها الطويل الذى يربو على ألف وخمسمائة سنة، وأما الثقافية، فلأنها تمثل السياق الذى احتضن هذه الظاهرة، وشارك فى صوغها، وحدد ملامحها العامة ؛ فتلازم الأسس النظرية والسياقات الثقافية هو القاعدة التى نهضت عليها هذه الموسوعة بكاملها. ولهذا خصص الكتاب الأول بأكمله لكشف طبيعة تلك الأسس والسياقات التى لا نرى سبيلا للتوغل في تضاعيف الظاهرة السردية العربية بدونها.
والحال هذه، فقد أصبح من غير المسموح به مقاربة الآثار الثقافية الكبرى عند أية أمة من الأمم بدون أخذ تلك الأسس فى الحسبان، والإفادة من معطيات الدرس النقدى الحديث، وتعريض الظواهر الأدبية لتحليلات موسعة قائمة على رؤية نقدية واضحة، لا تتجاهل المكاسب النظرية الحديثة التى حققتها الدراسات السردية، فيها يمكن استنطاق تلك الظواهر، وتحليل أبنيتها، وكشف طبيعتها. وإلى ذلك، فإن عزل الظواهر الأدبية عن سياقاتها الثقافية صار موضوع جدل غير ذى معنى، فلكى نتمكن من تحليل الظاهرة السردية، فلا مناص من إنزالها فى سياقها الثقافى، وهو سياق متشابك من عناصر تاريخية، وأدبية، ودينية، إذ تتلازم مكونات الثقافات القديمة فيها، وتتشابك عناصرها، ولا سبيل إلى فصل بعضها عن بعض إلا بافتراضات منهجية غايتها التخصص لتركيز الاهتمام على عنصر من تلك العناصر .
وتكشف المدونة الكبرى للثقافة العربية - الإسلامية فى القرون الأولى، وتمثلها: علوم الدين، والآداب، والتواريخ، والأخبار، والكتب الجغرافية، وكتب الطبقات، وعلم الكلام. . الخ، عن ظاهرة التلازم التى أشرنا إليها، فكل تلك المكونات ترتبط فيما بينها على نحو شديد التماسك فى ضروبها الدينية، والفكرية، والأدبية، والتاريخية، ولم تعرف التخصص، والتصنيف إلا فى وقت متأخر، حينما جرت إعادة نظر فى المتون الكبرى التى صاغت أسس تلك الثقافة فى القرون الهجرية الخمسة الأولى. ويلزمنا القول إن الظواهر الأدبية الكبرى، ومنها الظاهرة السردية، تتغذى من النسيج العام لتلك الثقافة، وإن التغيرات الأسلوبية، والبنيوية، والدلالية، تقع ضمن الإطار الثقافى الناظم لكل مظاهر تلك الثقافة، وإنه لا طريق للاقتراب إليها إلا بمعاينة السياق الشامل الحامل لها .
ينبغى أن نضع كل هذا فى الاعتبار قبل الانصراف إلى معالجة الظاهرة السردية ؛ لأنها ظاهرة مشتبكة بخلفيات، ومرجعيات، وأصول، ولا نرى سبيلا
لتعرفها، وملامسة خصائصها، إلا إذا أخذت تلك العلاقات مأخذ الجدية الكاملة. ولا يمكن مقاربة الأدب العربى بكامله، شعرا وسرداً، إلا برؤية تربط الظاهرة النصية بالظاهرة الثقافية، وإلى غياب كل ذلك تعزى الإخفاقات الحاصلة فى دراسة الأدب العربى، فكثير من الدراسات انطلقت من تحيزات مسبقة غايتها الفصل بين هاتين الظاهرتين المترابطتين مراعاة لأطروحات منهجية تقول بذلك الفصل. وإذا كان مثل ذلك الفصل مفيدًا فى دراسة نص مفرد، أو ظاهرة فنية صغيرة، فهو بالقطع لن يكون مفيدا، أو صحيحا، فى أية معالجة
شاملة تهدف إلى تحليل الظواهر الأدبية الكبرى. ويقودنا كل ذلك مباشرة إلى السردية العربية التى نراها تنزل فى العمق من
الثقافة العربية، فإذا كان القارئ العربى أنتج وعيا مختزلاً بمسار الشعر العربى ، بسبب الطريقة الخطية العتيقة التى سارت عليها كتب تاريخ الأدب، فقد حرم، بصورة عامة، من معرفة السرديات العربية التى قامت بتمثيل المخيال العربي الإسلامى، واختزنت رمزيا التطلعات الكامنة فيه، والتجارب العميقة التى عرفها، وتخيلها. وتعرضت خلال خمسة عشر قرنا إلى سوء فهم، نتيجة التركيز على الشعر، من جهة، وعدم امتثال معظم المرويات السردية لشروط الفصاحة المدرسية التى أنتجتها البلاغة العربية فى العصور المتأخرة من جهة ثانية، ثم عدم اعتراف الثقافة المتعالمة بقيمتها التمثيلية من جهة ثالثة. فاختزلت السردية العربية إما إلى وقائع تاريخية، وإخبارية، أو إلى أباطيل مفسدة، أو تخيلات مضللة. ويعود ذلك فيما يعود إلى غياب الدراسات المخيالية، والتركيز على المظاهر المباشرة فى التفكير العام، والاهتمام بالنصوص المعيارية، والوصفية، وإقصاء القيمة التمثيلية للأدب، وأخيرا وضع الثقافة الأدبية فى موقع النقيض للثقافة الدينية. وقد شاع جهل بالخلفيات الشفوية، والدينية للمرويات السردية، ثم جهل بالعلاقات المتشابكة بين النصوص التى تنتمى إلى أنواع مختلفة، وجهل بأبنيتها السردية والدلالية، وجهل بوظائفها التمثيلية، فكأن وعينا بأدبنا ناقص، وكان تاريخ الأدب العربى يقف على رجل واحدة. ولا يمكن الادعاء بأن هذه الموسوعة ستجعله يسير على رجلين ؛ فذلك أمر يتجاوز قدرتها، ويفوق طموحها، إنما تبغى المشاركة فى تنشيط الاهتمام بهذا الجانب، لكونها وقفت على الأنواع السردية الأساسية، وتشكلاتها، وتتبعت الأشكال الكبرى لها فى العصر الحديث، ولم تعن بالنصوص المتفرقة التى لم تندرج ضمن نوع إلا في كونها أصولاً لها أو تشققات عنها، فذلك مطمح كبير لم تتوافر عليه. وحيثما سيتردد مصطلح السردية العربية فلا يحيل على مقصد عرقى ، إنما القصد منه الإشارة إلى المرويات السردية القديمة، والنصوص السردية الحديثة التى تكونت أغراضا وبنيات ضمن الثقافة التى أنتجتها اللغة العربية والثقافة المرتبطة بها، والتى كان التفكير والتعبير فيها يترتب بتوجيه من الخصائص الأسلوبية والدلالية لتلك اللغة. وكانت الشفاهية التى استندت إلى قوة دينية قد جعلت العربية وسيلة التعبير الأساسية فى ثقافة تتصل بها مباشرة، فهي لغة الخطاب الدينى الذى ينطوى على تلك القوة. الأمر الذى مكنها، بوساطة القوة الدينية، أن تمارس حضورها الثقافى فى بلاد كثيرة، تستوطنها أعراق متعددة، قديما وحديثا، وهو الأمر الذى جعل مظاهر التعبير فيها تخضع الخصائص العربية. وسماتها العامة .
موسوعة السرد العربي
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة