لم يكن الكاتب الأمريكى الأشهر الراحل بول أوستر كاتبا عاديا، على كل حال فقد كان يطالعنا دائما بجديد يقدمه للقارئ الأمريكى أولًا، ثم ما يلبث عمله أن ينتشر انتشار النار فى الهشيم داخل أمريكا وخارجها، حيث عرف عن أوستر منذ أصدر عمله المهم "ثلاثية نيويورك" وقد ترجمها المترجم القدير كامل يوسف حسين، وصدرت عن دار الآداب، وكذلك ترجمة كاتبة هذه السطور رواية "موسيقى الصدفة" ثم صدرت روايتى "مستر فيرتيجو" و "قصر القمر" بترجمة المترجم الكبير الدكتور عبد المقصود عبد الكريم، عن المركز القومى للترجمة بمصر، وتوالت ترجمات أوستر لكن معظمها ليس دقيقا بالقدر الكافي.
بول أوستر
حتى الآن عرف العالم العربى بول أوستر مع ظهور مصطلح "واقعية القاع" حيث الكتابة الكاشفة عن المجتمع دون تجميل أو مواربة، وهو ما انتهجه أوستر أيضا فى تحرير نص من أهم النصوص التى ظهرت باسمه هو كتاب "قصص حقيقية من الحياة الأمريكية" أو كما حق أن ترجمته "أمريكا تحكي" وهو ليس من تأليفه لكنه فكرة فذة لا تصدر إلا عن كاتب مدرب محترف. فكل القصص التى بين دفتى الكتاب لم يكتبها أوستر بل طلب منه السيد "دانيال زاردلينج" المسؤول عن إذاعة الراديو الأمريكى أن يروى بصوته فى لقاء إذاعى شهرى عددا من قصصه فى إذاعة راديو نيويورك بينما كان مقر "دانيال" فى واشنطن، ولم يكن أوستر متحمسا لذلك لأنه يكره أن يأخذ الإبداع شكلا وظيفيا يُحمله مزيدا من الأعباء، لذا قرر أوستر ألا يروى من القصص التى يكتبها بنفسه بل يخاطب عامة الشعب الأمريكى كى يرسلوا له قصصهم التى عايشوها واقعيا وأن يقرأها بشفافية ثم يختار أفضلها ويكون مرويا فى الإذاعة بصوت أوستر نفسه فى البرنامج، كما قرر أوستر أنه إذا كتب عدداً كافياً من الأمريكيين حكاياتهم سيكون ذلك حدثاً استثنائيا.
هكذا بزغ مشروع القصص الذى عبر عن نسيج المجتمع الأمريكى. لذلك جاءت " قصص حقيقية من الواقع الأمريكى " التى كتبها الأمريكيون عن أنفسهم وحيواتهم ماضيهم وحاضرهم؛ قصص تحمل من النوادر والحكايات التى تكشف قدراً من الغموض أو المسكوت عنه وغير المعروف من الحكايات التى لا يعرفها ولم يعشها سوى اصحابها. ضمت قصص الأمريكيين الكثير من المروى منه المأساوى والكوميدى والاجتماعى الذى يقدم – بما يكفى- خبرات لا يشعر بأهميتها إلا من يستوعب تلك الحكايات الفائضة بالمشاعر السًوِى منها والمتناقض لأنها من شدّة واقعيتها لم يراع أصحابها أنهم يكتبون قصة فأخذوا يسردون تفاصيل حياتهم ومساعيهم العامة.
فنون الجوع
وصل لأوستر الآلاف من القصص منها ما كُتِب بخط اليد ومنها ما صُفّ بالآلة حتى شعر الكاتب الأمريكى بول أوستر أنه سقط فى بحر متلاطم من أمواج السرد الحقيقى النابض.
لذلك أخذ ينظمها بروِيّة ودقة حتى يختار منها خمس قصص تذاع فى برنامج تحت عنوان "كل شىء فى عطلة الأسبوع" يبث فى اذاعة نيويورك . وبعد أن ذاع صيت البرنامج وكان معظم الشعب الأمريكى جُلوس يستمعون إما الى تجاربهم الشخصية أو إلى تجارب غيرهم التى تضيف إليهم معارف اجتماعية جديدة. تم نشر تلك القصص بمقدمة ضافية لأوستر.
والكثير من المواقف التى تحتوى عليها النصوص هي قصص حقيقية لا تزيد عن كونها أصواتًا يتجسد المروى عنها فتمثل التعبير الحقيقى للواقع الذى يعايش الإنسان الأمريكى لحظة بلحظة رغم تفوقه على الخيال أحيانا هذا الواقع الذى يمتد عميقاً ليشتمل حتى على لقطات من الماضى البعيد حيث يخصص له أوستر قسما يمكننا أن نطلق عليه قصص الحرب الأهلية التى لا تزال هى اللحظة الحاسمة فى تاريخ الأمة الأمريكية الذى يحتاج إلى هذا النوع من التأمل الذى تُحدثه قراءة الواقع المرير الذى يتفوق على الخيال.
لقد رغب أوستر في تقديم تلك القصص التى تتحدى الصورة التقليدية وتختزلها الأذهان عن الواقع الأمريكى المعيش حيث كونها قصصا مناسبة لإماطة اللثام عن الكثير من جوانب الغموض التى تكشف وجود كُتابها فى الواقع بعضها مؤثر للغاية وأكثرها ما هو إلا تجسيد الحقائق التى يشتمل عليها متحف الواقع الأمريكى فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم تعرض أوستر لما يسميه سوء الحظ فى سيرته الذاتية المعنونة بـ "حد الكفاف" From hand To Mouth حيث يرصد معاناته الشديدة فى سنوات الجوع والرغبة فى البقاء على قيد الحياة، وعلى الرغم من انتماء أوستر إلى الطبقة الوسطى فى المجتمع الأمريكى إلا أنه منذ البداية كان حريصا على الوصول إلى صيغة مستقلة لوجوده الذاتى والإبداعى بعيدا عن ستر وبقاء الطبقة الوسطى.
قصص حقيقية من الحياة الأمريكية
وفى نص "فن الجوع" The art Of Hunger يستعيد أوستر جوانب من تلك المعاناة الأكثر تأثيرا على تجربته فى الكتابة، فينقل القارئ من شوارع نيويورك إلى باريس، ومن شَغل أحد المهن الغريبة الى الأخرى قبل وصوله إلى ما يُسميه مرحلة النقاء الإبداعى الذى أعقب ما اعتبره فشله المبكر فى الحياة والكتابة.
يبدو أن أوستر كان قريبا من الفلسفة الوجودية الأوربية، وفى كل أعماله يمكن القول إن رواياته ما هى إلا تأكيد لنصوص كبار كُتّاب الحداثة الأدبية، الأمر الذى أسس لرواية أمريكية كبرى ترسخت فى مصاف الآداب العالمية.