ما حكم ذبح الأضحية في البلاد الفقيرة بدلًا من وطن المضحي؟ فأنا أريد عمل الأضحية في إحدى الدول الفقيرة من غير دولتي؛ حيث قد انتشرت مجموعات كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي تحثُّ على ذلك؟، سؤال أجابت عنه دار الإفتاء بالآتى:
الأولى أن يذبح المضحِّي أضحيته ويوزعها في بلده وسط أهله، فإن ضحى في غير بلده كما هو موضوع السؤال فقد أجزأه وهو خلاف الأولى، وذلك كله بشرط كفاية مساكين بلد المضحي ووطنه؛ وهذا لا يحصل إلَّا بالتعاون مع المؤسسات والجهات القائمة بذلك؛ لأنها المنوطة بالإفادة عن وجود فائض عن حاجة البلاد من عدمه.
الحكمة من مشروعية الأضحية
شُرعت الأضحية توسعةً على المضحي وأهل بيته، وإكرامًا لجيرانه وأقاربه وأصدقائه، وطُعْمةً لفقراء ومساكين بلدته، وقد جرت السُّنَّة على التوسعة على الأهل والأقارب والجيران في يوم الأضحى، وممَّا يدُلُّ على ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَلْيُعِدْ» فقال رجل: هذا يومٌ يُشتَهى فيه اللحم، -وذكر هنَةً من جيرانه- فكأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عذَرَه، وعندي جَذَعةٌ خيرٌ من شاتين. فرخَّص له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلا أدري بَلَغَتِ الرخصة أم لا، ثم انكفأ إلى كبشين، يعني فذبحهما، ثم انكفأ الناس إلى غُنَيْمَةٍ فذبحوها. أخرجه الشيخان.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (6/ 407، ط. دار الوفاء): ["وذكر هَنَةً من جيرانه": كذا لأكثر الرواة، أي حالةً وأمرًا وحاجةً... قيل: لأجل ما ذكر في الحديث من حاجة جيرانه، فإنَّه رخَّص له النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذبح الجذعة وخصَّه بها، إذ ذكر أنَّه ليس عنده سواها] اهـ.
فضل الأضحية وبيان حُكمه
اللأضحية فضل عظيم عند الله تعالى؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» أخرجه الترمذي في "جامعه".
وهي سُنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء؛ من المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة والظاهرية. ينظر: "مواهب الجليل" للحَطَّاب (3/ 238، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للنووي (3/ 228، ط. المكتب الإسلامي)، و"المغني" لابن قُدَامَة (9/ 435، ط. مكتبة القاهرة)، و"المحلى" لابن حزم (6/ 3، ط. دار الفكر).
حكم ذبح الأضحية في البلاد الفقيرة بدلًا من وطن المضحي
الأصل في ذبح الأضاحي أن تكون ببلد المضحي كما جرت به السُّنَّة العملية.
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 425، ط. دار الفكر): [الأفضل أن يضحي في داره بمشهد أهله هكذا قاله أصحابنا] اهـ.
فإن ذبحها في غير بلده ففي الإجزاء وجهان عند الشافعية؛ الأول: لا تجزئ، والثاني: تجزئ مع كونه خلاف الأَوْلى.
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (15/ 115، ط. دار الكتب العلمية): [ومحل الضحايا في بلد المضحي، وهل يتعيَّن عليه ذبحها فيه أم لا؟ على وجهين مخرَّجَين من اختلاف قولي الشافعي في تفريق الزكاة في غير بلد المالك هل يجزئ أم لا؟ على قولين، فإن قيل لا تجزئ تعيَّن عليه ذبح الأضحية في بلده فإن ذبحها في غير بلده لم يجزه، وإن قيل تفريقها في غير بلده يجزئ لم يتعيَّن عليه ذبح الأضحية في بلده، وكان ذبحها في بلده أفضل، وفي غير بلده جائز] اهـ.
وأولوية ذبح الأضاحي في بلد المضحي حاصلة للآتي:
أولًا: أنَّه يستحبُّ للمضحِّي أن يذبح أضحيته بنفسه متى قدر عليه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ضحَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحهما" متفقٌ عليه.
قال أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (4/ 372- 373، ط. دار الكتب العلمية): [(وذبحها بيده) سمع ابن القاسم: أَحبُّ إليَّ أن يلي ذكاة أضحيته بيده، وروى محمد: لا يلي ذبحها غير ربِّها إلا لضرورة أو ضعف، ابن حبيب: أو كبر أو رعشة فإن أمر مسلمًا غيره دون عذر فبئس ما صنع، وروى ابن حبيب: وأحب إليَّ أن يعيد بنفسه صاغرًا. وقال محمد: ورواه عن مالك: لتلِ المرأة ذبح أضحيتها بيدها أحب إليَّ، وكان أبو موسى الأشعري يأمر بناته بذلك] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح صحيح مسلم" (13/ 116، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه: إجزاء الذَّكَر في الأضحية، وأنَّ الأفضل أن يذبحها بنفسه، وهما مُجمع عليهما] اهـ.
ثانيًا: أنَّه يستحب للمضحي أن يشهد ذبح أضحيته متى عجز عن ذبحها بنفسه؛ لما ورد عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك، فإنَّه يغفر لك بكل قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي: إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين»، فقال عمران: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال: «بل للمسلمين عامة» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "سننه" و"شعب الإيمان".
قال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية" (4/ 361، ط. دار إحياء التراث العربي): [(والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح)، وإن كان لا يحسنه فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه] اهـ.
ثالثًا: ما قرَّره الفقهاء من أنَّ مباشرة القربى أولى من التولية فيها؛ قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 79، ط. دار الكتب العلمية): [الأفضل أن يذبح بنفسه إن قدر عليه؛ لأنه قربة فمباشرتها بنفسه أفضل من توليتها غيره كسائر القربات] اهـ.
رابعًا: ما قرَّره الفقهاء من أنَّ أهل كل بلد أولى بصدقتهم -والأضحية تشبه الصدقة-؛ قال الإمام القاسم بن سلام في "الأموال" (ص: 709، ط. دار الفكر): [والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها أن أهل كلِّ بلدٍ من البلدان أو ماء من المياه أحق بصدقتهم؛ ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى ذلك على جميع صدقتها، حتى يرجع الساعي ولا شيء معه منها، بذلك جاءت الأحاديث مفسرة] اهـ.
وقال كذلك (ص: 711): [فكل هذه الأحاديث تثبت أن كل قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها، ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم، إنما جاءت به السُّنَّة لحرمة الجوار، وقرب دارهم من دار الأغنياء] اهـ.
خامسًا: ما فيه من رعاية حقِّ الجوار بإعطائهم من لحمها؛ إذ النصوص الشرعية متواترة في الدلالة على عِظَم حق الجار واستحباب تعاهده بالخير؛ من ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [النساء: 36].
ومنها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنَّه سيورثه» أخرجه الشيخان.
وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك» أخرجه البخاري.
فكان ذبح المضحي أضحيته في بلده مشتملًا على معنى إكرام الجار وتعاهده بالخير، فكان الخير فيه أعم والفضل فيه أتم.
سادسًا: ما في ذبحها في بلد المضحي من صلة ذوي القربى بإهدائهم من ثلثها؛ إذ هي حينئذٍ مشتملة على فضل الأضحية وصلة الأرحام، كما دلَّ على ذلك حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القرابة اثنتان: صدقة وصلة» أخرجه ابن ماجه في "سننه".
قال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (4/ 1354، ط. دار الفكر): [يعني أنَّ الصدقة على الأقارب أفضل؛ لأنَّه خيران، ولا شك أنهما أفضل من واحد] هـ.
وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (4/ 193، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وفيه التصريح بأن العمل قد يجمع ثواب عملين لتحصيل مقصودهما به فلعامله سائر ما ورد في ثوابهما بفضل الله ومنَّتِه] اهـ.
ويجدر التنبيه على أنَّه قد يُوَكِّل المضحي بالذبح في غير بلده لمصلحةٍ راجحة يُقِرُّها الشرع الحنيف -كجودة اللحم أو رخص ثمنه أو وفرته- وتُوزَّع على أهله في بلده، كما يحدث في كثيرٍ من المؤسَّسَات التي تُوَكَّل بالتضحية، ويُقصَد بالبلد هنا الوطن الواحد.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالأولى أن يذبح المضحِّي أضحيته ويوزعها في بلده وسط أهله، فإن ضحى في غير بلده كما هو موضوع السؤال فقد أجزأه وهو خلاف الأولى، وذلك كله بشرط كفاية مساكين بلد المضحي ووطنه؛ وهذا لا يحصل إلَّا بالتعاون مع المؤسسات والجهات القائمة بذلك؛ لأنها المنوطة بالإفادة عن وجود فائض عن حاجة البلاد من عدمه.