نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية الفلسفة الكاثوليكية" تأليف الفيلسوف الشهير برتراند راسل، ترجمة زكي نجيب محمود مراجعة أحمد أمين، فما الذي قاله في المقدمة؟
مقدمة:
الفلسفة الكاثوليكية — بالمعنى الذي سأستعمل به هذه الكلمة — هي الفلسفة التي سادت الفكرَ الأوروبي من أوغسطين إلى النهضة، وقد كان ثمة فلاسفة قبل هذه الفترة وبعدها (وهي فترة دامت عشرة قرونٍ)، ممن ينتمون إلى تلك المدرسة الفلسفيَّة نفسها في اتجاهها العام؛ فقبْل أوغسطين كان "الآباء" الأولون، وخصوصًا «أوريجن Origen»؛ كما أنَّك واجد بعد عصر النهضة كثيرين، ومنهم في عصرنا الحاضر كلُّ معلمي الفلسفة الكاثوليكيين الأصيلين الذين يتبعون هذا أو ذاك من تعاليم العصور الوسطى، وبخاصةٍ مذهب توماس الأكوينى، غير أن الفترة الواقعة بين أوغسطين والنهضة هي وحدها التي تتفرد عما قبلها وما بعدها؛ بكون أعلامٍ للفلاسفة فيها قد اختصوا أنفسهم بإقامة البناء الكاثوليكي، أو بإصلاح ما فيه من أوجه النقص؛ أمَّا في العصور المسيحية السابقة لأوغسطين، فترى الرواقيين وأتباع الأفلاطونية الحديثة يبُزُّون «الآباء» في قدرتهم الفلسفية، وأمَّا بعد النهضة، فلست ترى بين الفلاسفة الممتازين أحدًا، حتى ممن كانوا بينهم من الكاثوليكيين الأصيلين، قد أخذ نفسه بالمُضي على غرار التقاليد الاسكولاستية أو الأوغسطينية.
وتختلف الفترة التي سنجعلها موضوع بحثنا في هذا الكتاب عن العصور التي سبقتها وعن العصور التي لحقتها على السواء؛ تختلف عنها لا في الفلسفة فحسب، بل كذلك في وجوه كثيرة أخرى، أهمها قوة «الكنيسة»؛ ﻓ «الكنيسة» قد قرَّبت العلاقة بين المعتقدات الفلسفية وبين الظروف الاجتماعية والسياسية، على نحوٍ أشدَّ مما كان قبل العهد الوسيط أو بعده. وإنَّما نعني بالعهد الوسيط تلك الفترة التي تمتد من سنة ٤٥٠ ميلادية حتى سنة ١٤٠٠ ميلادية، وما «الكنيسة» إلا نظام اجتماعي قام على أساس عقيدة، بعضها فلسفي، وبعضها خاص بالتاريخ المقدس، ولقد ظفرت «الكنيسة» بالسلطان وبالثراء بفضل ما لها من عقيدة، وأخفق الحكَّام العلمانيون الذين ما انفكوا في صراع معها، وجاء إخفاقهم ذاك نتيجةً لاعتقاد الكثرة الغالبة من الناس — بما في ذلك معظم هؤلاء الحكام العلمانيين أنفسهم — اعتقادًا جازمًا بصدق الديانة الكاثوليكية، وكان لا بد ﻟ «الكنيسة» أن تقاوم طائفة من التقاليد الرومانية والجرمانية، وكانت التقاليد الرومانية على أقواها في إيطاليا، وبخاصة بين طائفة رجال القانون؛ وأمَّا التقاليد الجرمانية فكانت على أشدها في الأرستقراطية الإقطاعية التي نشأت عن غزوات القبائل المتبربرة. على أنَّ هذه التقاليد أو تلك قد لبثت قرونًا طوالًا عاجزة عن مقاومة «الكنيسة» مقاومة مثمرة، وتعليل ذلك هو إلى حدٍّ كبير أنَّ تلك التقاليد لم تتبلور في فلسفة تعبر عن مكنونها كله.