بدأ إبراهيم باشا رحلة عودته من القسطنطينية لمصر فى 14 يونيو، مثل هذا اليوم، 1848، بعد حصوله على فرمان من الباب العالى بالولاية على مصر فى حياة والده محمد على باشا المريض «راجع، ذات يوم، 13 يونيو 1848».
كان «نوبار باشا»، مرافقا لإبراهيم فى هذه الرحلة، ويسجل ما جرى فيها بمذكراته، قائلا: «تركنا القسطنطينية صباح اليوم التالى بعد حضور الوزراء وكبار رجال الدولة لوداع إبراهيم الذى ودعهم، قائلا: «أترون هذه الأعمدة؟ لقد أصبحت أطلالا بينما أنا وأبى زرعنا فى مصر عشرة ملايين شجرة، أنتم على العكس خربتم ما حباه الله لكم».
كان إبراهيم متأثرا بالمرض الذى تمكن منه قبل سفره، وكانت رحلة عودته دراما مثيرة، يتذكرها نوبار: «كنت بمفردى على سطح السفينة حوالى الساعة الرابعة من بعد الظهر عندما لحق بى أحد مماليك إبراهيم ليخبرنى بأن إبراهيم يبحث عن كالوست، وكيل أعماله فى القسطنطينية، ويكاد يفقد صوابه لأنه خدعه وغالطه فى صفقة الفراء، فقلت له: إن كالوست ظل فى القسطنطينية بناء على أوامر إبراهيم الذى رفض أن يصدق ذلك، وادعى أن كالوست يختبئ فى مخزن السفينة، وطلب إحضاره وإلقاءه فى البحر».
يضيف نوبار: «بعد إبلاغى بهذه المعلومات تركنى المملوك وذهب من حيث أتى، وسبّب هذا الخبر قلقا لى، كنت على دراية تامة بحالته العقلية، كان خائفا على حياته ويعانى من خشونة الصوت نتيجة التهاب حباله الصوتية من جراء القىء المستمر، كان هناك خطر آخر يلوح فى الأفق وهو أكبر من الأول يطارده منذ طفولته ألا وهو خوفه إلى حد الهرب من والده، لأنه إذا وصلنا إلى الإسكندرية ووجدنا محمد على شفى تماما من مرضه، فإن ذلك سيعنى بالفعل أن إبراهيم سيلقى مصيرا مظلما ولن ينجيه لا قبطان بك ولا كل مماليكه، لم يكن إبراهيم يهذى فى هذا الشأن، ولا فى إحساسه بالخوف والكراهية تجاه والده، كان يعرف تماما أن شفاء محمد على فيه ضياعه الأكيد، فلا وزن عنده لأى ولاية أو فرمان، لكن على النقيض إذ وجد أباه على نفس الحالة التى تركه عليها قبل السفر غير قادر على القيام بأعباء الحكم والقبض على السلطات التى كان يمارسها».
يعلق نوبار: «سواء كانت هذه المخاوف مبالغا فيها أم لا، لها أساس أم لا، كنت أحس أنها موجودة فى رأس إبراهيم، وكانت دائمة الحضور أمام مخيلته المتعبة والمنهكة بسبب كل هذه الأحداث، حاضرة ليست كأحلام ولكن كحقائق»، يتذكر: «فى اليوم التالى تم إخطارى بأن إبراهيم انتابته نوبة أخرى من حالات الاضطراب النفسى، وكان «كالوست» دائما وكالعادة هو من يبحث عنه ويتهدده بقتله، وفى حوالى الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم كنا أنا وحسن باشا وبيدان بك، نتبادل الحديث ورأينا شرين بك قائد السفينة قادما إلينا وهو رجل شجاع كنا نحبه جميعا، قال لنا فى نبرة هادئة وساكنة: «لقد كلفنى السر عسكر، أن أقول لكم: إنكم أنتم الثلاثة خونة، وإنك يا حسن باشا خنته مع عباس، وأنت «متجها بنظره لبيدان بك» خنته مع أترين بك شاركيان، وأنت «مستديرا نحوى» خنته مع والده، لكن وقبل أن تصلوا إلى الإسكندرية، ولكى يسلم من أى خيانة أخرى من جانبكم سيأمر بقطع رؤوسكم ويضعها بين أرجلكم ويلقى بكم فى البحر».
يضيف نوبار: «كنت أنظر إلى حسن باشا، فرأيت خديه انكمشا، ووجهه أصابه الشحوب المفاجئ، ثم نظرت إلى بيدان بك فكان وجهه أبيض كالكفن، قال حسن باشا فى صوت مرتعش لشرين بك: لكنك لن تنفذ مثل هذا الأمر إذا أعطاه لك، فرد شرين: حسنا إن عدم تنفيذى للأمر لن يقدم أو يؤخر شيئا كثيرا من أمركم، لأن مساعدى سيلقى بى فى الماء وبذلك أكون أنا الرابع»، قال ذلك وسار بعيدا مثلما جاء محتفظا بكل سمات الهدوء الذى فى العالم».
يذكر «نوبار» كيف تصرف فى هذا الأمر بصعوده إلى سطح السفينة وقيامه بالترويح عن إبراهيم وإبعاد هذا النوع من التفكير عنه، وأنه فعل ذلك طوال مسافة الرحلة حتى الاسكندرية، يقول: «كنت دائما أجد السبيل للترويح عنه ولأتحدث معه عن أمر والده، فكنت أذكِره دائما بأن الشفاء من أمراض المخ أمر مستحيل، لا سيما فى سن والده، وكنت أبقى إلى جوار سريره حتى ساعات متأخرة من الليل تارة لمساعدته على الجلوس فى سريره وتارة أخرى نتحدث، وتارة ثالثة نتشاور فى الطقس والرياح وحساب المسافة التى تم قطعها والمسافات الباقية للوصول إلى الاسكندرية، وكان عندما يسمعنى أتحدث عن المستقبل بهذه الثقة المطلقة يحس بالاطمئنان، وأفكاره السوداء تتلاشى تدريجيا».