نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب "الثقافة والكرامة: حوار بين الشرق الأوسط والغرب" لـ لورا نادر، ترجمة آيات عفيفي مراجعة إيمان عبد الغني نجم، فما الذي جاء في مقدمته؟
مقدمة:
بدأ العمل على هذا الكتاب قبل فترة طويلة من تدريبي الرسمي، لقد حباني الله بأن أكون أمريكيةً من الجيل الأول من المهاجرين؛ فأنا ابنة لوالدَين وفدَا إلى الولايات المتحدة من بلاد الشام، أو سوريا كما يعرفها البعض، في نفس وقت تقسيم سوريا الكبرى إلى لبنان وسوريا أو بعده مباشَرةً، بينما كانت خطط تقسيم فلسطين لم تَزَلْ تُحاك. وهكذا فقد تربَّيْتُ ثنائيةَ اللغةِ والثقافة؛ ممَّا منحني فرصةً رائعة للاطِّلاع على العديد من الحوارات حول معاني الثقافتين العربية والأمريكية.
كذلك فإن نشأتي فيما بين الثقافتين خلق لديَّ حساسيةً تجاه معاناة شعوبٍ كان يمكن ألَّا يصل إلى سمعي أيُّ خبرٍ عنهم في المدارس الأمريكية؛ فترعرعتُ وأنا أعلم عن مجاعة الأرمن، والمستعمرين البريطانيين والفرنسيين، والتعبير الشعري باللغتين الإنجليزية والعربية، وعرفتُ عن توقِ دعاةِ الوحدة العربية إلى صياغة حلمهم على نموذج الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب إضفاء المثالية على الأمريكيين، وعلى الديمقراطية الأمريكية على وجه الخصوص.
كانت النقاشات اليومية على مائدة العشاء تتراوح بين الإهانات التي تلقَاها المجتمعات المُستعمَرَة ومجتمعات الشتات، والقادة العرب المشاهير، خاصةً الشعراء الذين قتلهم المستعمرون رميًا بالرصاص، وقالوا عنهم إنهم متمرِّدون بدلًا من الاعتراف بوطنيتهم، وخطط فرِّقْ تَسُد التي ألَّبَتْ جماعةً دينية على جماعةٍ دينية أخرى، إلى جانب مناقشة كيفية مدِّ نظام صرف صحي في بلدتنا في نيو إنجلاند؛ وجميع هذه النقاشات رسَّخت بداخلي أهميةَ الاحترام المتبادَل في الحياة اليومية.
بعد ذلك، تعرَّفتُ من خلال عملي، باعتباري عالمة أنثروبولوجيا، على حياة المستضعفين في كل مكان؛ الأمريكيين الأصليين المحرومين من حقوقهم، وسكان جزر المحيط الهادئ الأصليين، والأفارقة، وسكان أحياء الأقليات في المناطق الحضرية، والفلاحين الأمريكيين اللاتينيين، وسكان مخيمات اللاجئين في الشرق الأوسط وغيره من الأماكن. وبدأتُ أولَ بحث ميداني لأطروحة خاصة بي عام ١٩٥٧م لدراسة منطقة لم تطأها أبحاثُ علماء الأنثروبولوجيا بعدُ، وهي رينكون زابوتيك في سييرا جواريز في أواكساكا بالمكسيك، وكان البحث بمثابة طقس افتتاحي عالي المستوى.
وفي عام ١٩٦١م، وبعد الانتهاء من أطروحتي، انطلقتُ من بيركلي قاصدةً القيامَ ببحث ميداني في الصيف في لبنان، والشروع في إعداد بحث تمهيدي عن الشريعة الإسلامية في القرى، وبينما كنتُ أستكشِفُ كيفيةَ اختيار قرية مناسِبة، وما إذا كان الأفضل أن تكون قرية شيعية أم سُنيَّة، غمرني سيلٌ من التحذيرات من أُسَرٍ لبنانية وأصدقاء لبنانيين؛ لأني قد أُصاب بالأمراض، ولا يمكن توقُّع ما قد يصيبني إنْ عملت في قرية مسلمة، وأني سأكون في خطر؛ لأن أحدهم أخبرني أن المسلمين "لا يحبون المسيحيين"، بينما رأى آخَرون أن هذا هراء، وأن اختلاف الآراء يرتبط بمواقف الأفراد السياسية، ولم تتوقَّف الحوارات والتحذيرات الكثيرة والطويلة عن مخاطر العمل الميداني.
لا يوجد شكٌّ في أن كل هذه التحذيرات التي بَدَتْ كحالةٍ حادَّة من جنون الارتياب كانت راجعةً إلى أزمة ١٩٥٨م، والأكيد أن مكوثي في قرية زحلة المسيحية كان هو السبب في تردُّد أيِّ سائق في نقلي إلى القرى.
الثقافة والكرامة
ولكن زاد من تصميمي على العمل في إحدى القرى المسلمة اهتمامي بمعرفة مدى سيطرة الشريعة الإسلامية الرسمية على إجراءات تسوية النزاعات في القرى، وهي الشريعة التي نشأت في الأصل في مراكز حضرية.
وبعد حوالي أسبوعين كاملين من التناقُش مع الناس والتنقُّل بسيارات الأجرة بين قرًى عدة؛ أدركت أن إحدى أنجح الطرق للعثور على قرية مناسبة في لبنان كان بمساعدة السياسيين أو المحامين المشتغلين بالسياسة، وليس عن طريق علماء الاجتماع اللبنانيين، الذين لم يركِّزوا اهتمامَهم على المناطق الريفية من لبنان.
ففي حين كان الربط في أواكساكا بين المراكز الحضرية والقرى الخاضعة لحكم رينكون زابوتيك يتمُّ بسهولة من خلال إحدى الجمعيات التنموية، فإن الطريقة الأفضل لخلق هذا الرابط في لبنان كانت من خلال رجال السياسة الذين كانوا نشطاء في أحزابهم، ومن ثم كانوا يعرفون كلَّ شيء عن القرى في الحملات الانتخابية؛ لذا كان السياسيون والمحامون المشتغلون بالسياسة هم الأكثر خبرةً في التعامُل مع القرى اللبنانية، فيما يتعلَّق بأغراضي على أي حال. ونظرًا لتمتُّعي بميزة استثنائية تمثَّلت في عائلتي التي تعيش في لبنان، فقد ساعدني أحد أقربائي، وكان يعمل بالسياسة، في العثور على قرية مسلمة شيعية من بين أفقر القرى في البلاد. ومقارنةً بعملي في المكسيك — حيث كانت إحباطاتي ترتبط إلى حدٍّ بعيد بمكان إجراء العمل الميداني نفسه — كانت الصعوبات في لبنان ناشئةً من عجزي عن إيجاد طالب جامعي ربما كان قادرًا على مساعدتي، ومن إشكالية إيجاد سيارة وسائق، وهو الأمر الذي يبدو تافهًا بالرغم من صعوبته، ومن وجود إضراب للمحامين وتوقُّف الاستماع إلى أيِّ دعاوى قضائية، وأخيرًا — وعلى وجه الخصوص — من صعوبة جمع أي نوع من المعلومات «الموضوعية» عن أي قرية مناسبة للعمل. ولكنني وجدتُ موقعًا مناسبًا بالرغم من كل ذلك.
لم تظهر قرية لبَّايا، القريبة من مرجعيون، على أغلب خرائط لبنان؛ لأن الطريق إليها لم يكن قد اكتمَلَ إلا حديثًا. كان عدد سكانها حوالي ١٤٠٠ فرد، ويعيش بها ثماني عائلات كبيرة تتوزَّع فيما يقرب من ٤٠٠ منزل، وكانوا يشكِّلون مجتمعًا متجانسًا من المسلمين الشيعة. قمت في المقام الأول بتجميع حالات الاستعانة بالواسطة، أو البحث عن حلول للنزاعات. وعلى عكس أهل زابوتيك، اعترف الشيعة طوعًا وبسهولة بحدوث نزاعات بينهم، ولم يترددوا إطلاقًا في التحدُّث عن الموضوع؛ ممَّا أشعرني أن عملي صادَفَ التيار السائد في القرية ولم يعارضه. كذلك أذهلني أعداد ومستويات الأشخاص الذين يتواصل معهم أيُّ ريفيٍّ من المسلمين الشيعة عند وقوعه في مشكلة واضطراره للبحث عن واسطة؛ فشخصية الشخص الذي يلجأ إليه تختلف بناءً على نوع المشكلة التي يواجهها من جهة، وعلى الرجل الذي سيتولَّى الحكْمَ عليه في المحكمة المدنية من جهة أخرى. علاوة على ذلك، تتمتَّع أوساط النخبة السياسية في لبنان بمعرفة مذهلة بالعلاقات الشخصية، بحيث صار الأمر أشبه بلعبة قائمة على المعرفة والذكاء لتحديد مَن يستطيع الوصول إلى أفضل العلاقات في أسرع وقت.
وعلى عكس تجربتي الأولى بين شعب زابوتيك، كانت المشكلات الشخصية والإدارية والفكرية المتعلِّقة بالعمل الميداني في أدنى مستوياتها فور وصولي إلى القرية؛ حيث لم أواجه عائقَ العمل مع مترجِمٍ؛ لقدرتي على فهم الحديث بالعربية، كما ثبت أن التخوُّف من النَّبْذ والرفض بسبب ديانتي كان تخوُّفًا فارغًا؛ فقد سألَتْني الأسرة التي كنتُ أسكن لديها عن ديني في البداية، وعندما أخبرتهم أني مسيحية، نصحوني أن أدَّعِي أنني مسلمة إن سألني أي شخص آخَر في القرية، ولكنني أجبتُهم ببساطة بأني لم أعتَدِ الكذبَ، ولمَّا انتشرَتْ هذه القصة في القرية عُومِلتُ بانفتاح واحترام لم أتوقَّعهما.
كان موضوع بحثي من الموضوعات التي أَحَبَّ هؤلاء الشيعة أنفسهم التحدُّثَ فيها، فأنجزتُ خلال أسابيع قليلة عملًا رُبما استغرَقَ أربعةَ أشهر لإنجازه في بلاد زابوتيك؛ كما أن انتشار استخدام الأمثال في الشرق الأدنى كثيرًا ما يساعد في إرشاد علماء الأنثروبولوجيا لتحديد أي القِيَم ذو أهمية: «عامِلِ الناسَ مثلما تحب أن يعاملوك» (والمقصود منها غالبًا سوء المعاملة)، و«المكتوب مبيَّن من عنوانه»، و«كُنْ ليِّنًا لا تنكسر»، و«بدَّك تبهدل رجَّال، فلِّت عليه مرا؛ بدَّك تبهدل مرا، فلِّت عليها ولد»، و«بِالْوَجه مراية وبالقفا صرماية»؛ لذلك إذا كنتُ بصدد إسداء النصح لشباب الأنثروبولوجيين القائمين على الإعداد لإجراء دراسة ميدانية في الشرق الأوسط العربي، أوصيهم بشدة أن يتعرَّفوا على مجموعة من هذه الأمثال ويحفظوها.
أما الجوانب السلبية لعمل المرأة ميدانيًّا في الشرق الأوسط، فقد تمَّ تضخيمُها والمبالغة فيها بدرجة كبيرة؛ إذ لم أشعر بأيِّ خطر خلال الفترة القصيرة التي أمضيتُها في القرية، وبالأخص فيما يتعلَّق بكوني امرأةً؛ ربما كان السر وراء ذلك يتمثَّل في إقامتي لدى إحدى الأُسَر بدلًا من الإقامة وحدي، وهذا جعلني «ابنة» من بنات القرية، أو ربما كان السبب أن العرب لديهم تصنيفٌ للنساء «كأخوات للرجال»؛ وهو دور طبيعي تستطيع أيُّ عالمة أنثروبولوجيا تقبُّله إنْ أرادت، وهو ما فعلتُه تحديدًا.
انصبَّ تركيزُ علماء الأنثروبولوجيا في السنوات الأخيرة على الفئات ذات السلطة؛ مثل: المسئولين الحكوميين، والعسكريين، والعلماء، والمستعمرين، وشركات التسويق، والجرَّاحين، وغيرهم، والربط بين حياة أصحاب السلطة هؤلاء وبين حياة الفلاحين، والعمال في المصانع، والفقراء، والمساجين، والجنود، ووضَّحوا بهذه الطريقة كيف أن الهيكل الهرمي للمجتمع يمثِّل تجسيدًا للهيمنة. إن طريقة الحكم القوي تظلُّ في الذاكرة لقرون، أو تُنسَى ثم تعود إلى الذاكرة من جديد.
إنَّ الأرمن الذين فرُّوا من الإبادة الجماعية بعد الحرب العالمية الأولى واستقبلتهم لبنان، من بين دول أخرى، يذكرون كيف عُومِلوا بكرامة، واللبنانيون ما فتئوا يذكرون بعد مرور ٩٠ عامًا ما فعله الأتراك العثمانيون في لبنان، ويصف الكثير من القصص المعروفة ما فعلوه من إذلال واستيلاء على المحاصيل وغيرها من الحوادث، ولكن الحكومة التركية تدعم اليومَ المساعِيَ الإنسانية لتحرير غزة، وهو ما ستذكره شعوبُ المنطقة. يذكر علماء الأنثروبولوجيا تجربةَ ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى؛ ممَّا دفعهم إلى حثِّ الجنرال ماك آرثر في اليابان على عدم تكرار نفس الأخطاء التي ارتُكِبَت حينها، فحذَّروه قائلين: «لا تُهدِرْ كرامة العدو.» إن البشر في كل مكان تقريبًا حسَّاسون للتجارب المتعلِّقة بالثقافة والكرامة، ويستشعرون غيابَ الاحترام بسهولة، كما أن الإهانات الصغيرة تتراكم بمرور الوقت إن لم يُلطِّفها الاحترام المتبادل في أوقات أخرى.