كيف وصف أحمد أمين مشهد وقفة عرفة في كتاب فيض الخاطر؟

السبت، 15 يونيو 2024 06:00 م
كيف وصف أحمد أمين مشهد وقفة عرفة في كتاب فيض الخاطر؟ فيض الخاطر
كتب عبد الرحمن حبيب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تحل وقفة عرفة حاملة معها السرور من كل الأجواء حيث يدعو الداعون ويصعد الحجاج في مشهد عظيم وصفه الكاتب الكبير قبل عشرات السنوات في كتابه فيض الخاطر فقال: يتجه الخارجون من مكة إلى عرفة نحو الشرق، ثم يميلون ميلًا خفيفًا إلى الجنوب، وإذ ذاك يسيرون في واد بين جبلين، وبعد مسافة ليست بالطويلة تجد على يسارك جبلًا سمي جبل النور، بني على قمته العالية قبة يلمع بياضها.

هناك في هذه القمة غار يبلغ ثلاثة أمتار في مترين، كان يخرج إليه النبي ﷺ فيقضي فيه الأيام ذوات العدد؛ حتى قد تبلغ الشهر، كان يفر إليه من الناس وضوضائهم وباطلهم، كان يشرف من أعلى هذا الجبل على العالم من تحته؛ فينعم بالطبيعة وجمالها، والليل وهدوئه، والسماء ونجومها، ثم يفكر في الناس فيهزأ بسخافاتهم هزؤًا مشوبًا برحمة، واستخفافًا ممزوجًا بعطف.

كان يهرب إلى هذا الغار؛ لأنه عرف باطل الناس وأراد الحق، وعرف ما هم فيه من ظلام، وطلب النور؛ حتى إذا تهيأت نفسه للحق، واستعدت روحه لليقين، نزل عليه الوحي فلمع في قلبه النور الإلهي، فإذا الحق واضح، وإذا الله معه، ونزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه وأن يحيوا قلوبهم من حياة قلبه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره.

ذلك هو جبل النور الذي يمر عليه السالك من مكة إلى عرفة، وهذا هو غار حراء الذي في قمته.

ثم ينعطف السائر نحو الجنوب ويسير نحو خمسة كيلو مترات فيصل إلى منى، وعند دخولها يجد السائر على يساره جمرة العقبة، وهي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وعرضه نحو مترين، أقيم على قطعة من الصخر، وبني أسفل هذا الحائط حوض يسقط فيه الحصى الذي يرميه الحجاج، هذه هي جمرة العقبة التي يرميها الحجاج بما يجمعون من حصى بعد عودتهم من عرفة؛ رمزًا إلى أنهم قد قويت إرادتهم، وغزوا بواعث الشر في نفوسهم، ورجموا الشيطان؛ فلم يستمعوا لدعوته، ولم يقعوا في حبائله التي ينصبها عن طريق الشهوة.

ومنى مكان متسع يخيم فيه الحجاج قبل رحيلهم إلى عرفة وبعد عودتهم، وفيها سبيل يمجد ذكر مصر، وينتفع به الحجاج من سائر الأقطار، يتزودون من مائه الذي جلب إليه من عين زبيدة، فيوفر عليهم كثيرًا من العناء، ويسبغ عليهم الرخاء والهناء.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة — أي في مثل يومنا هذا — يخرج أكثر الحاج من منى قاصدين عرفة، فيسيرون في واد بين جبلين يتسع حينًا، ويضيق حينًا، يمرون فيما يمرون على المزدلفة بعد ساعتين من منى، وعلى مسجد نمرة، وبعد قليل من المسجد تجد العلمين؛ وهما عمودان من البناء يبعد أحدهما عن الآخر، يرتفع العمود نحو خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، وهما يدلان على حدود عرفة فيما وراءهما؛ وإذ ذاك تجد جبلًا قد حلق على الوادي وأقفله في شكل قوس كبير؛ هو جبل عرفة، وفي الجهة الشمالية منه لسان يبرز إلى الغرب يسمى جبل الرحمة، وفيه صخرة كان يقف عليها الرسول ﷺ وعليها يقف الخطيب اليوم.

في هذا المكان في جبل عرفة يقف الحجاج جميعًا على اختلاف مذاهبهم يوم التاسع، وجزءًا من ليلة العاشر، يعجون بالتلبية والدعاء، والتسبيح والتهليل، ومن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

عند ذاك ترى منظرًا عجبًا؛ قد تجمع آلاف الناس في هذا الجبل وحوله بملابسهم البيضاء، واتحدوا في التوجه إلى الله على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، قد ربطتهم وحدة الدين، وألفت بينهم وحدة القصد، اتجهوا كلهم إلى الله يزلزلون الجبل بدعائهم وتلبيتهم، قد نسوا دنياهم، ونسوا أنفسهم وتعلقت أرواحهم بربهم، يتجلى على وجوههم الوجد والهيام، وتغلبت روحانيتهم على ماديتهم، وانقلبوا ملائكة أطهارًا؛ هذا يستغفر مما جنى، وهذا يندم على ما فات، وهذا يعاهد الله على الطهر الدائم، وهذا يبكي ندمًا، وهذا يستبشر أملًا؛ وكلهم متعلقون بربهم، يرجون افتتاح حياة جديدة؛ عمادها التقوى والإخلاص، وهم يتنقلون من نوع من الهتاف إلى نوع آخر، هؤلاء يعجون: لبيك اللهم لبيك، وهؤلاء يتلون آيات من القرآن في عظمة الله ووحدانيته.

وعلى الجملة يغمر الناس نوع من الفيض، يعجز القلم عن وصفه.

وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ينهض خطيب عرفة، ويصعد بناقته على الجبل، ويقف على الصخرة التي وقف عليها رسول الله ﷺ، ويخطب خطبة يعلم فيها الناس مناسك الحج، ويكثر فيها من التلبية والدعاء، ومن دونه قوم يبلغون قوله للناس، ويلوحون بمناديل يشيرون بها إلى التلبية، فيتابعه كل الناس بتلبيتهم؛ فتتحد نداءاتهم، ويغمر الناس شعور غريب.

وهو موقف يمكن أن يستغله المسلمون أحسنَ استغلال، فيؤتى بالمكبرات الصوتية، وتعد فيه الخطب الرائعة باختلاف اللغات؛ متضمنة نصيحة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وما يوقظ هممهم، ويحيي آمالهم، ويوحد صفوفهم، ويوجههم أصلح وجهات الحياة؛ وفي هذا الاجتماع فرصة كبيرة لتلاقي ذوي الرأي من المسلمين في الأجناس المختلفة، يتبادلون الرأي فيما يصلح أممهم، وينير السبيل لمستقبلهم.

 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة