وضع الخليل إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام القواعد من البيت فتغير تاريخ مكة، وهو ما تعرض له الكاتب الكبير الراحل محمد حسين هيكل فى كتابه المعروف حياة محمد.
حياة محمد
يقول محمد حسين هيكل، لم تكن مكة حين بناء الكعبة على خير ما يمكن أن يصوره خيالنا لتزيد على قبائل من العماليق ومن جرهم، فلما استقر بها إسماعيل ورفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم اقتضى تطور مكة، لتصير حضرًا أو ما يشبه الحضر، زمانًا طويلًا، ونقول: ما يشبه الحضر أن ظلت مكة وما تزال وفي طباع أهلها بقايا من معاني البداوة الأولى، ولا يأبى بعض المؤرخين أن يذكر أنها ظلت على بداوتها إلى أن اجتمع أمرها لقصي في منتصف القرن الخامس للميلاد، وعسير أن نتصور بقاء بلد له ما لمكة وبيتها العتيق من التقديس في حالة البادية، مع ما يثبت التاريخ من أن أمر البيت بقي بعد إسماعيل في يد جرهم أخوال بنيه أجيالًا متعاقبة أقاموها حوله، ومع أن مكة كانت ملتقى طرق القوافل إلى اليمن وإلى الحيرة وإلى الشام وإلى نجد، كما كانت تتصل من البحر الأحمر القريب منها بتجارة العالم — عسير أن نتصور بقاء بلد له هذه المكانة من غير أن يدنيه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة، فمن الحق لذلك أن نقدر أن مكة وقد دعاها إبراهيم بلدًا ودعا الله له أن يكون آمنًا مطمئنًّا قد عرفت حياة الاستقرار أجيالًا طويلة قبل قصي.
وظل أمر مكة لجرهم بعد أن غلبوا العماليق عليها إلى عهد مُضَاض بن عمرو بن الحارث، وقد راجت تجارة مكة خلال هذه الأجيال رواجًا أمَّر مُترفيها وجعلوا ينسون أنهم بوادٍ غير ذي زرع وأنهم في حاجة لذلك إلى الدأب المتصل واليقظة الدائمة، وبلغ من نسيانهم أن نضب ماء زمزم وأن فكر عرب خُزاعة في الوثوب إلى مناصب الأمر في البلد الحرام.
ولم يُجْدِ تحذير مضاض قومه عاقبة ما انغمسوا فيه من ترف، وأيقن أن الأمر زائل عنه وعنهم؛ فعمد إلى زمزم فأعمق حفرها، وإلى غزالتين من ذهب كانتا بالكعبة مع طائفة من الأموال التي كانت تهدى إلى البيت الحرام فدفعها بقاع البئر وأهال الرمال عليها، آملًا أن يعود له الأمر يومًا فيفيد من الكشف عنها، وخرج ومعه بنو إسماعيل من مكة ووليت خُزاعة أمرها، وظلَّت تتوارثه حتى آل إلى قصيِّ بن كلاب الجد الخامس للنبي.