تدفقت مقالات الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربى، فى جريدة السياسة ضد سعد زغلول باشا رئيس الحكومة، التى شكلها فى يناير عام 1924، فتقدم «سعد» ببلاغ إلى النائب العام ضد صاحب هذه المقالات، التى تنشر بلا توقيع أحيانا، وباسم «ساخط غاضب» فى أحيان أخرى، وفقا لتأكيد الدكتور أحمد زكريا الشلق فى كتابه «طه حسين-جدل الفكر والسياسة».
كان طه حسين وقتئذ على خط حزب الأحرار الدستوريين، رغم عدم انضمامه رسميا إلى الحزب، وكانت «السياسة» برئاسة الدكتور محمد حسين هيكل باشا لسان حال الحزب، وطه حسين مشرفا على صفحتها الأدبية منذ عام 1923، ويذكر «الشلق» أن «طه» انخرط فى سياسة الجريدة، وصار يحرر مقالاتها الرئيسية أحيانا، عندما كان يتولى رئاسة تحريرها فى فترات غياب الدكتور هيكل باشا، ويتولى تحرير الموضوع الذى تلزمه الشدة والعنف والتهكم، ومعظم هذه الموضوعات كانت موجهة إلى سعد زغلول، أما الموضوع الذى يتطلب نعومة وهدوء فكان يعطى للدكتور هيكل.
توالت المقالات ضد «سعد» ووزارته التى أطلق عليها «وزارة الشعب»، فتقدم ببلاغه، ويؤكد «الشلق» أن التحقيق جرى مع كتاب «السياسة» على أساس أنه لا يوجد توقيع على هذه المقالات، ويذكر الدكتور مصطفى عبدالغنى فى كتابه «طه حسين وثورة يوليو»: «كان عام 1924 أكثر الأعوام التى شهدت تصاعد هجوم طه حسين ضد «سعد»، وفقرة بسيطة من مقالاته تدل على هذا العف، ففى مقال بعنوان «ويل للحرية من سعد»، يقول: «كان سعد محاربا لأمته، فأصبح محاربا لكل هذا العصر الحديث، سعد وكيل الأمة فى كل شىء- حتى فى قراءة الصحف- أيتها الأمة المصرية طيبى نفسا، وقرى عينا، اهدئى واطمئنى، فقد قبض الله لك رجلا يريحك فى كل شىء، لا تطالبى بالاستقلال، فسعد يطالب به، لا تعشقى الحرية فسعد يعشقها، لا تؤمنى بالله فسعد يؤمن بها، ولا تقرئى الصحف فسعد يقرأها».
فى 17 يونيو، مثل هذا اليوم، 1924، أجرى رئيس النيابة التحقيق مع طه حسين، ووجه له اتهام «إهانة حضرة صاحب الدولة»، ويذكر «عبدالغنى» نقلا عن محضر التحقيقات: «سأله رئيس النيابة: علمت النيابة أنك ممن يكتبون فى جريدة السياسة، ولك فى تلك الصحيفة مقالات بإنشائك وإملائك، فهل هذا صحيح؟ رد طه: لا أجيب، ولعدة ساعات يلقى المحقق أسئلة عديدة فيرفض طه حسين الإجابة، ويعود وكيل النيابة ليناور، قائلا: فى حالة عدم الإجابة تعتبر من القرائن الكبيرة على إجرامك، فلا يزيد طه على القول: لا أجيب، ويقرأ المحقق عناوين كثيرة، نشرت بدون توقيع لصاحبها ويرد: لا أجيب».
يضيف «عبدالغنى»، أن رئيس النيابة قال: إنه يعرف أن طه حسين هو كاتب هذه المقالات، فهو يكتب فى صحيفة السياسة بشكل مستمر، كما أن دراسة أسلوب المقالات تؤكد أنه أسلوب المتهم، والنيابة عادت إلى أوراق طه حسين الوظيفية بوزارة المعارف، فتأكد لها أنه طلب بشكل رسمى أن يكتب بجريدة السياسة بوجه خاص، فأذن له مجلس إدارة الجامعة رسميا، غير أن النيابة تفشل فى تضييق الخناق عليه أو انتزاع منه أى اعتراف، فلم يجد وكيل النيابة غير إخلاء سبيله.
يكشف هو لماذا التزم بكلمة «لا أجيب» فى الرد على المحقق، ويذكر سكرتيره محمد الدسوقى فى كتابه «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره»، أنه ذكر له قصة مثوله أمام النيابة، قائلا: أذكر مثالا لكتاباتى السياسية الشديدة اللهجة، البالغة العنف، أن الوفدين منعوا محرر جريدة «السياسة» التى كان يصدرها «الأحرار الدستوريين» من حضور جلسة البرلمان، وكان أن كتبت مقالة ضد الوفدين، بعنوان «ضعاف»، وكانت هجوما قاسيا، ونقدا لاذعا وسخرية بالغة، وكان من عادتى ألا أوقع مقالاتى السياسية، ولكن أسلوبها كان ينم عن كاتبها، ولذلك قدمت للمحاكمة بسبب هذه المقالة، ونصحنى بعض الأحرار أن أنكر أن المقالة لى، غير أنى رفضت هذا، وأصررت على عدم الكذب وإنكار مقال كتبته، وحلا لهذا الموقف قال لى المرحوم عبدالعزيز فهمى: إذا سئلت أى سؤال فإن إجابتك دائما: لا أجيب.
يضيف «طه»: لما ذهبت إلى وكيل النائب العام وسألنى: هل كتبت مقالة «ضعاف»؟ فقلت له: لا أجيب، فقال لى: وأين الشجاعة التى تعلمها للطلبة فى الجامعة؟ فقلت له: لا أجيب، وهكذا حتى يئس منى، وقال لى أخيرا: اتفضل اذهب إلى بيتك، وحضرت جلسة المحكمة التى نظرت قضية هذا المقال، وجلست بين الحاضرين، ووقف محامى الوفدين يقرأ المقال، وفى أثناء قراءته سمعت بعض الحاضرين يقول: ابن الكلب أسلوبه قوى جدا، وما كاد المحامى يفرغ من قراءة المقال حتى دوت القاعة بالتصفيق الحاد، حمل القاضى على رفع الجلسة احتجاجا على هذا التصرف قائلا: حتى يعلم الناس أن للقضاء وقارا.