لا حديث هذه الأيام سوى عن ارتفاع درجة الحرارة، ويبدو أن موضوع الحرارة قد شغل العالم منذ القِدم، حتى إن العلماء والفلاسفة تحدثوا عنه وناقشوه وقدموا تعريفات له.
ونتوقف اليوم عند رأى اليونانيين فيه، وذلك من خلال كتاب "تاريخ علم الحرارة.. مراحل تطور مفاهيم الحرارة وتطبيقاتها وإسهامات العلماء العرب والمسلمين فيها" لـ سائر بصمه جى، الذى يقول تحت عنوان "المبحث الأول.. اليونانيون":
التفت اليونانيون إلى مفهوم الحرارة منذ القرن السادس قبل الميلاد، فالكرة النَّارية المُحيطة بكرة الهواء أصلها من الحرارة، كما اعتقَد بذلك كلٌّ من أنكسمندار وبارمنيدس، ثم قال أفلاطون باندماج الحرارة واليبوسة لتشكيل النَّار، لحق به أرسطو الذي أرسى فكرة العناصر الأربعة والعنصر الخامس (الأثير)، لكنه انتقد تفسيرات الذرِّيِّين للحرارة، وأنه يُمكن تفسير هذا المفهوم انطلاقًا من نظريته في القوة والفعل. لكن لوكريتوس لم يتفِق معه، واعتَبَر أنَّ الحرارة تحلُّ في الجسم الحار، وتنفصل عن الجسم البارد كالروح والجسد.
لكننا سنجد أنَّ التعريف الذي صَمَد وتمَّ اعتماده في النِّهاية هو تعريف أرسطو للحرارة بأنها تجمُّع الأجزاء المتجانسة مع بعضها في المادة.
أنكسمندار (القرن 6ق.م.)
رفض أنكسمندار (تُوفِّي 547 ق.م.) أنْ يكون الماء مبدأً أول لوجود المادة في الطبيعة؛ فالماء استحالة للجامد إلى سائل بالحرارة، وهكذا فإنَّ حالة الحار والبارد سابقةٌ عليه.
وكان يُعتقَد أن الحار ضد البارد، وهما الضدان الأصليان للأبيرون (أو أصل الأشياء اللامحدود)، ومنهما نشأَت الأضداد الأخرى التي نعرفها، وهذا يعني أنَّ الأبيرون مزيجٌ مُتعادل من الحار والبارد، وليس من كل الأضداد والصفات مُستقلةً عن الحار والبارد.
أفلاطون (القرن 4ق.م.)
أفكار أفلاطون (تُوفي 347ق.م.) حول مفهوم الحرارة، يقول "ومن التركيب واليبس تولد الحرارة، إلى أن قال: ومن التركيب والرُّطوبة يولد البرد".
أرسطو (القرن 4ق.م.)
تناول أرسطو (تُوفِّي 322ق.م.) مفهوم الحرارة في كتابه (الكون والفساد) وقد عَرَّفها بأنها التي تَجْمَع ما بين الجواهر المُتجانسة، وتفرِّق المُختلفة؛ لأنَّ التفريق الذي يُقال عن النَّار أنَّها تفعَله، إنَّما هو في حقيقته تركيب الأشياء التي هي من نوعٍ واحد، ما دام الذي يحصل هو أنَّ النار تُخرِج الجواهر القريبة وتنقِّيها، والبرودة ضد ذلك تجمَع وتركِّب على السواء الأشياء المُتجانسة وغير المُتجانسة. هذا التعريف للحرارة سَيتَبنَّاه عددٌ لا بأس به من العلماء العرب والمسلمين لاحقًا، وسيعتمدون عليه في تفسيراتهم العلمية في الطبيعيات عمومًا.
ديموقريطس (القرن 4ق.م.)
مضى زعيم الذرِّيين ديموقريطس (تُوفي 380ق.م.) أبعدَ من أن يقترح تغيُّر شكل الذرَّات حسب الحرارة؛ فقد فسَّرَ الطَّعم الحار أو الحرِّيف الذي نُصادفه في الفلفل الأحمر بأنَّه يملك شكلًا له زوايا حادَّة تُمكِّنه من اختراق الجسم، وتوليد الحرارة فيه، فهو "ملتوٍ كثيرًا، وأيضًا صغير ورفيع، بسبب صفته الواخزة (أو النَّافذة) فإنه ينسابُ بسرعةٍ في كل مكان ولكونه خشنًا وذا زوايا حادة فإنه يتقدَّم تدريجيًّا وباطِّراد إلى الدَّاخل ويعوق البقية. بهذه الطريقة فإنه يُسخِّن الجسم بإحداث فسحاتٍ فارغة فيه؛ لأنَّ حرارةً أكثر تنتُج حيثُ تُوجد فسحة فارغة أكثر. الحلو يتشكل من ذرَّاتٍ كُروية، والتي تكون كبيرةً إلى حدٍّ بعيد، بسبب ذلك فإنه يُرخي الجسم تمامًا عندما يمُر عَبْره برفق وعلى نحوٍ غير سريع.
ستراتون اللمباسكي (القرن 4ق.م.)
فسَّر ستراتون اللمباسكي Straton (القرن 4ق.م.) — متأثرًا بأرسطو كثيرًا — الظاهرات تفسيرًا طبيعيًّا بحتًا، بحيث إنه أرجعها إلى مبدأَين هما الحار والبارد، وجعل الحار منهما مبدأً فَعَّالًا في غيره.
أفلوطين (القرن 3م)
يرى أفلوطين Plotinus (تُوفي 270م) أنَّ "عمل النار [هو] أن تولِّد الحَرَارة؛ و[الجسم] الذي يُصبح حارًّا ينبغي ألا يكون حارًّا من تِلقاء ذاته، فإذا أتلفَت النَّارُ شيئًا، وجب أولًا أن يُصبح حارًّا، وأن يُصبح في حالة الحرارة قَسْر طبيعته"، وكان يرى أنه إذا صارت الحرارةُ في حرارةٍ أخرى ضعُفَت، ولا نعلم من أين جاء باقتراحه الأخير، هل هو من التجربة أم من التخيُّل، أم أخذَه عن أحد.