عندما رفع المرشح الديمقراطى بيل كلينتون شعار "إنه الاقتصاد يا غبى" فى حملته نحو البيت الأبيض عام 1992، كان يدرك أن السياسة الخارجية، حتى وإن كانت بعض أحداثها مهيمنة وإنجازاتها كبيرة، لن تكون العامل الحاسم فى تحديد الفائز فى سباق الانتخابات الرئاسية، التى كان كلينتون ينافس فيها الرئيس الجمهورى جورج بوش الأب.
وبالفعل خسر بوش الأب، رغم أن عهده شهد تفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار الأنظمة الشيوعية فى أوروبا الشرقية وتأكيد أمريكا لمكانتها باعتبارها القوى العظمى الوحيدة فى العالم. ولم تشفع له السياسة الخارجية الناجحة لدى الناخبين الذين استأوا من إهماله الوضع الداخلى، فصوتوا لكلينتون.
منذ هذا الوقت أدرك أغلب المرشحين الرئاسيين أن السياسة الخارجية ليست ذات تأثير كبير على الناخبين الأمريكيين، مهما بدا الأمر غير ذلك. لكن هل تكون انتخابات 2024 خروجا عن هذا السياق؟.
فالانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة فى نوفمبر المقبل تأتى فى ظل صراعات دائرة فى أماكن مختلفة حول العالم، وحربين تقوم الولايات المتحدة بدور بارز فى كليهما، وهما حرب غزة وحرب أوكرانيا.
أثارت حرب أوكرانيا انقسامات داخل الولايات المتحدة، تتعلق بحجم المساعدات الهائل الذى تقدمه واشنطن لكييف. لكن التأثير الأكبر كان لحرب غزة، التى وضعت الرئيس جو بايدن فى موقف محرج حتى داخل حزبه، وطالبه بعض الديمقراطيين بتغيير سياسته فى ظل دعمه الراسخ لتل ابيب رغم انتهاكات بحق الفلسطينيين وارتكابها للإدانة الجماعية.
وفى تصريحات لإذاعة صوت أمريكا، قال روبرت كولينز، أستاذ الدراسات الحضرية والسياسة العامة فى جامعة ديلارد فى نيو أورليانز بولاية لويزيانا، إنه من المتوقع أن تكون انتخابات القادمة متقاربة للغاية والحسم فيها يكون بهامش صغير.
وأوضح أنه حالة الانتخابات المتقاربة يمكن للأشخاص الموجودين على تلك الهوامش أن يحددوا من سيصبح رئيسا فى إشارة إلى بعض الفئات التى يمكن أن تحسم النتيجة.
فى هذه الانتخابات يخسر بايدن دعم الناخبين من اصول عربية، الذين استأوا بشدة من دعمه لتل أبيب. فى تقرير لها فى فبراير الماضى، قال صحيفة "يو إس إيه توداى" أن ارتفاع عدد الشهداء فى غزة والدمار الذى سببته إسرائيل فى القطاع أصبحا مصدر ألم شخصى عميق وحزن لآلاف من العرب الأمريكيين فى ولاية ميتيشجان، التى يوجد بها أكبر جالية عربية، وهو السبب الذى يجعل الكثير منهم يتعهد بإلحاق الهزيمة بالرئيس جو بايدن فى الانتخابات الرئاسية المقررة فى نوفمبر.
وكان العرب الأمريكيون قد هاجموا بايدن بسبب دعمه لمطلق لإسرائيل منذ بداية الحرب، ومنذ حدوث عملية طوفان الأقصى وما أعقبها من شن إسرائيل الحرب، أعرب بايدن صراحة عن تضامنه مع تل أبيب وقدم بعض من الأسلحة التى استخدمتها إسرائيل فى غزة.
من ناحية أخرى، يشعر قادة أوروبا بالقلق من أن بايدن قد يخسر منصبه بسبب سياسته. وذكرت مجلة بولتيكو فى تقرير لها مؤخرا، أن الدبلوماسيين وقادة العالم، بدأوا يشعرون بالقلق من أن إحجام بايدن عن القطيعة التامة مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يمكن أن يكلفه الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر المقبل.
وأشارت الصحيفة إلى أن تلك المخاوف، التى أعرب عنها خمسة خبراء فى السياسة الخارجية ومسئولين حكوميين أمريكيين على اتصال مع المسئولين الأجانب، قد تم نقلها بشكل كبير خلف الأبواب المغلقة، حرصا على عدم التدخل بشكل كبير فى السياسات الداخلية الأمريكية. إلا أن الدافع كان واحدا فى كثير من الأحيان. فقد عززت الحرب من التصور بأن العالم ملئ بمجموعة من القضايا الساخنة الخارجة عن السيطرة، مما جعل بايدن بدوره يبدو ضعيفا أمام الناخبين الأمريكيين.
ويخشى هؤلاء أن يؤدى هذا إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض وتمزيق الانسجام الدبلوماسى الأوسع الذى عمل بايدن على ترسيخه.
وقال جيريمى شابيرو، المسئول السابق بالخارجية الأمريكية فى إدارة أوباما، والذى يظل على اتصال مع الدبلوماسيين الأوروبيين، أن مستوى القلق هو شىء بين الفزع والرعب، مضيفا أن التحالف شديد الأهمية لهذه الدول فى الوقت الراهن.