أوفدت منظمة العمل الدولية، بعثة لإعداد تقرير عن وضع العمال فى الأراضى العربية المحتلة، وكشف جيلبرت هونجبو المدير العام لمنظمة العمل الدولية أن الحكومة الإسرائيلية فى مطلع فبراير الماضى أعلنت أنها ليست قادرة على استقبال البعثة السنوية لمنظمة العمل الدولية، وبالتالى لم تتمكن البعثة من زيارة الضفة الغربية أو غزة أو إسرائيل أو الجولان السورى المحتل، وعوضا عن ذلك، توجهت البعثة إلى عُمان، الأردن، حيث التقت مع المحاورين الفلسطينيين الرئيسيين وغيرهم من المحاورين القادمين من الأرض الفلسطينية المحتلة، كما التقت مع الهيئات المكونة من الجمهورية العربية السورية فى دمشق ومع جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية فى القاهرة، وقدم الجميع معلومات استُرشد بها فى إعداد هذا التقرير.
وأوضح جيلبرت فى تقريره، أن الأشهر الماضية كانت كارثية الوطأة على العمال الفلسطينيين، حيث شنت إسرائيل حرب على غزة حملت معها الموت والدمار بجسامة لم يُعرف لها مثيل حتى اليوم، وتوقفت عجلة النشاط الاقتصادى فى غزة بشكل شبه تام، وفى ديسمبر 2023 أشارت تقديرات الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى إلى أن نسبة البطالة ارتفعت إلى 74%، وفى مارس 2024 وصلت إلى 89 %، وأشارت التقديرات إلى أن الخسارة الإجمالية فى دخل العمل فى غزة بلغت 4.1 مليون دولار أمريكى فى اليوم، بسبب فقدان الوظائف ودفع رواتب القطاع العام بشكل جزئى وانخفاض دخل العاملين فى القطاع الخاص.
وأضاف التقرير: بالتالى، لم تعد هناك أى سوق عمل نشطة فى غزة، وما تبقى من العمل الشحيح فيها هو عمل غير منظم والغاية منه البقاء على قيد الحياة، مثل التجارة فى الشوارع، والأطفال هم من يمارسونه فى أغلب الأحيان، علاوة على ذلك، توقفت جميع أنشطة التعليم والتدريب الرسمية فى غزة، بما فيها التدريب المهنى، منذ أكتوبر 2023، وأشارت التقارير إلى أن المؤسسات التعليمية كانت مستهدفة بطريقة ممنهجة إلى أن انهار النظام بأكمله، وبات معظم مبانى المدارس والجامعات إما مدمراً أو متضرراً أو يُستخدم كملاجئ للأشخاص النازحين داخليا، وقد قُتل المئات من المدرسين والمدربين وأساتذة الجامعات.
وأشار إلى أن الاقتصاد الفلسطينى فى عام 2023 كان يعوض خسائره الناجمة عن جائحة كوفيد- 19 حين اندلعت فجأة الحرب فى غزة، مخلفة وما تزال، آثاراً كارثية، وفى الأرباع الثلاثة التى سبقت أكتوبر 2023، كان متوسط النمو الفصلى فى الناتج المحلى الإجمالى يبلغ نسبة 2.8% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وفى الربع الأخير من عام 2023، تراجع الناتج المحلى الإجمالى بنسبة تقارب الثلث، ذاك الانخفاض من نصيب غزة، حيث هبط بنسبة 81.3% مقارنة مع نسبة 18.8% فى الضفة الغربية، وبصورة سنوية أدت صدمة الحرب إلى انخفاض مستويات النشاط الاقتصادى فى الأرض الفلسطينية المحتلة بنسبة 93.3% مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة عام 2019، وفى غزة أتت الحرب على الأخضر واليابس.
وأُحيطت البعثة علما بأن نقص المساعدات الإنسانية وما نجم عنه من شح فى الاحتياجات الأساسية، وموجة الدمار التى اكتسحت غزة، بما فى ذلك تدمير معظم المصارف وأجهزة الصرف الآلى مما أدى إلى انحسار السيولة أو النقد فى القطاع، أسفرت عن ظهور واقع اقتصادى جديد هو: اقتصاد المقايضة، فقد لجأ الفلسطينيون فى غزة إلى المقايضة باعتبارها وسيلة للبقاء، فلا يتبادلون السلع والخدمات مقابل النقد بل مقابل سلع أو خدمات أخرى، وباتوا يبيعون مقتنياتهم الشخصية ومواد المساعدات الإنسانية من أجل الحصول على الغذاء، وغالبا ما ينخرط الأطفال فى أنشطة المقايضة هذه فى سبيل دعم أسرهم، وصار الناس يقفون فى طوابير من أجل سحب النقد من أجهزة الصرف الآلى القليلة التى لا تزال قيد التشغيل، وقد ينتظرون أياما حتى يحين دورهم وفى معظم الأحيان تبوء معاملاتهم بالفشل، فلجأ الناس إلى وسيلة بديلة من أجل الحصول على النقد تنطوى على رسوم وعمولات عالية.
كما انهارت أنشطة القطاع الخاص فى غزة، ومن المقدر أن قيمة إنتاج القطاع الخاص فى الأشهر الأربعة الأولى من الحرب انخفضت بنسبة 85.8% تحت خط الأساس فى فترة السلم، ونجم عن ذلك خسائر بلغت 810 مليون دولار، وقد تكررت المعلومات الواردة من المحاورين، فى دراسة استقصائية شملت 700 منشأة تعمل فى 7 قطاعات فى الضفة الغربية أجرتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع اتحاد الغرف التجارية والصناعية والزراعية الفلسطينية بين نوفمبر 2023 ويناير 2024، وكانت الحرب تؤثر على عمليات تلك المنشآت بطرق تشمل صعوبة الحصول على السلع 83.8 % من المنشآت المشاركة فى الدراسة، وارتفاع بالغ فى تكاليف النقل 82.5%، وعدم تمكن العمال من الوصول إلى أماكن عملهم بسبب نقاط التفتيش، 65.2% وفترات تأخير غير اعتيادية أثناء تخليص البضائع فى المرافئ الإسرائيلية 54.3% من المنشآت، وامتناع الشركات الإسرائيلية والأجنبية عن التعامل الشركات الفلسطينية وفقا لنسبة 42.8%.
وكشفت الدراسة الاستقصائية انخفاض عائدات الشركات الشهرية بنسبة 97.2 %، فى حين انخفضت قدرة 90.8% من المنشآت على الوفاء بالتزاماتها المالية، وثمة آثار أخرى منها فقدان الزبائن بسبب التأخير فى التوصيل بنسبة 81.0%، هذا بخلاف الاضطرار إلى خفض ساعات أو أيام العمل بنسبة 73.4% وتسريح العمال بصورة مؤقتة بنسبة 52.7 % أو دائمة بنسبة 39.9%.
واستنادا إلى الافتراضات التى تفيد بأن نسبة 90% من وظائف القطاع الخاص فى غزة ذهبت أدراج الرياح، وأن العمالة فى القطاع العام انخفضت بنسبة 15% وضاعت جميع الوظائف فى إسرائيل التى كان يشغلها الفلسطينيون المنحدرون من غزة والبالغ عددها 20.000 وظيفة، يصبح من المقُدر أن إجمالى الوظائف التى خسرتها غزة بلغ 201.000 وظيفة فى نهاية يناير 2024، ويمثل هذا الرقم أكثر من ثلثى إجمالى العمالة فى القطاع قبل الحرب ويعنى أن الدخل اليومى الضائع فى المنطقة المحصورة يبلغ 3.3 مليون دولار، وكانت هذه التقديرات لا تزال سارية فى نهاية مارس 2024، وفى الوقت الراهن، باتت الحاجة الأكثر إلحاح ا بالنسبة إلى معظم العمال هى الحصول على الغذاء الكافى من أجل البقاء على قيد الحياة.
وأصبح أغلب الفلسطينيين فى غزة ممن هم فى سن العمل إما عاطلين عن العمل أو غير نشطين ودون دخل، غير أن هناك عدداً قليلاً من العمال الذين ما زالوا مستخدمين ويعملون: وهم العاملون فى اقتصاد المساعدات الإنسانية، بمن فيهم موظفو وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى الشرق الأدنى "الأونروا"، والقلة القليلة من الأفراد العاملين فى القطاع الخاص فى إدارة بعض المخابز والمتاجر، بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض العمال المستخدمين دون أن يكونوا فى العمل: وهم عمال القطاع العام الذين ما زالوا يتلقون جزء اً من رواتبهم من السلطة الفلسطينية، وبين أولئك وهؤلاء.
وأشار المدير العام فى تقريره، إلى أن العوز الشديد الذى أصاب العمال الفلسطينيين فى غزة نتيجة الحصار البرى والبحرى والجوى المفروض عليهم منذ فترة طويلة جعلهم عرضة للاستغلال، إلى درجة أنهم يقبلون فى أغلب الأحيان العمل بأجور أقل بكثير من الحد الأدنى القانونى ولساعات عمل أطول من الحد الأقصى القانونى ودون أمن وظيفى، وبات جميع العمال وأصحاب العمل معرضين لخطر صحى جسدى وذهنى كبير، وتأثرت النساء بصفة خاصة، نظراً إلى إنه يتحملن العبء العملى والعاطفى الناجم عن النقص الراهن فى الرعاية الصحية ورعاية الأطفال وتعليمهم فى غزة، كما انخرط الأطفال فى العمل غير المنظم أو البحث عن الطعام أو مقايضة مواد المساعدات الإنسانية مقابل مواد أساسية أخرى مثل الأدوية أو الخيام أو الملابس الشتوية، فأوضاع الحروب والأزمات تزيد مخاطر التعرض لجميع تجاوزات قانون العمل، ومنها العمل الجبرى.