مسلسل الخسائر الذي تواجهه الدولة العبرية يبدو عرضا مستمرا، في ظل سلسلة متواترة من الفشل الميداني، والدبلوماسي، ناهيك عن العجز عن احتواء غضب الشارع، وصولا إلى الانقسام الذي أحل بدائرة الحكومة الإسرائيلية نفسها، خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن صفقة تبادل الأسرى، وما سوف تؤول إليه من وقف لإطلاق النار، وهو الأمر الذي تحفظ عليه أعضاء الحكومة المنتمين لحزب الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسئيل سموتريتش، وكلاهما هدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عيانا بيانا بالانسحاب من الائتلاف الحاكم، وهو ما يعني حل الحكومة واللجوء إلى انتخابات مبكرة في تل أبيب، وهو الكابوس الذي سعى نتنياهو لإزاحته طيلة أشهر الحرب الماضية، عبر إطالة أمدها خوفا من مستقبل ملبدا بالعار، ومحفوف بخطر المحاكمات والسجن.
مخاوف نتنياهو من المستقبل المظلم الذي ينتظره، ربما دفعه إلى حالة من الإنكار، حيث نفى ما صرح به بايدن، حول وقف إطلاق النار في غزة، كجزء من صفقة تبادل الأسرى، ليكشف بنفسه تلك الأكاذيب التي سبق وأن روجها الإعلام الغربي، مستهدفا نزاهة الدور المصري، والذي يحظى بثقة دولية كبيرة، حول تغيير بنود الصفقة، لخدمة مصلحة نتنياهو الشخصية، بعيدا عن حتى عن مصالح الدولة العبرية، والتي باتت على حافة خسائر غير مسبوقة، تطال إلى جانب، هيبتها العسكرية، واستقرارها الداخلي، نفوذها الدولي، وهو ما بدا في تغيير جذري شهدته مواقف دولا محسوبة على المعسكر الموالي لإسرائيل، وعلى رأسها سلسلة الاعترافات بدولة فلسطين من قبل دول أوروبية، وهو ما يعود في المقام الأول لثمار الجهود الدبلوماسية الكبيرة التي بذلتها الدولة المصرية منذ بدء العدوان على غزة، وحرصها على عدم الانجراف نحو الرؤية الإسرائيلية، والتي اعتمدت في الأساس على القطاع والتهديدات القادمة منه، عبر التركيز على ثوابت القضية الفلسطينية وإبرازها باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار لمختلف أطراف المعادلة الإقليمية.
وبين مصلحة إسرائيل ومصالح نتنياهو الشخصية، ثمة هوة عميقة من الاختلاف، التي تصل إلى حد التعارض الصريح، فيما يتعلق بالعديد من المسارات، أولها فيما يتعلق بالشارع الإسرائيلي، والذي يضع تحرير الرهائن، كأولوية قصوى، وهو الأمر الذي دفع إلى موجات عارمة من الاحتجاجات التي وصلت إلى منزل رئيس الوزراء نفسه، بينما يقوم المسار الثاني على البعد الإقليمي، فيما يتعلق بالعلاقة بين الدولة العبرية وجيرانها، في ضوء ما يمثله العدوان على غزة، من حالة مستمرة من عدم الاستقرار، تسعى الحكومة إلى تأجيجها بين الحين والآخر، عبر توسيع نطاق الصراع جغرافيا، ليشمل دولا أخرى في المنطقة تارة، وتبني دعوات مشبوهة، على رأسها تهجير الفلسطينيين، تارة أخرى، وكذلك البعد القضائي، هو المسار الثالث، مع دخول محكمة العدل الدولية على خط الصراع، وما أصدرته من أحكام تقضي بوقف إطلاق النار في غزة، مما يضع حرجا دوليا ليس فقط على كاهل إسرائيل وكذلك الداعمين لها.
في حين أن ثمة مسارا رابعا، تتعلق في هذا الإطار بالعلاقة بين إسرائيل ومناطق نفوذها، في الغرب، وهو ما بدا أولا في تغير مواقف الغرب الأوروبي على النحو سالف الذكر، بالإضافة إلى الإدانات الحادة التي تبناها زعماء القارة العجوز، بينما تبدو الأمور لن تكون على ما يرام مع الجانب الأمريكي في اللحظة الراهنة، خاصة مع تحول نتنياهو لتكذيب بايدن شخصيا، فيما يتعلق بالصفقة التي أعلن عنها بنفسه، وهو ما يمثل نقطة تحول مهمة، في تاريخ العلاقة بين البلدين، أو على الأقل بين الإدارات الحاكمة هنا وهناك، والتي تتسم أساسا بقدر من عدم الانسجام، ليس فقط على خلفية التعنت الإسرائيلي في الاستجابة لنداءات واشنطن حول الصراع الحالي في غزة، وإنما يحمل كذلك خلفيات تاريخية، تعود إلى حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذي كان بايدن نائبا للرئيس حينها، فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران في عام 2015.
وفي الواقع، الأمور لن تصل إلى حد التوتر في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، في ضوء ثوابت الدبلوماسية الأمريكية والتي تقوم في الأساس على دعم الدولة العبرية، بالإضافة إلى اقتراب الانتخابات الرئاسية، إلا أن إدارة بايدن ربما تدرك أن الحاجة باتت ملحة إلى إحداث قدر من التوازن، في ضوء سياسات نتنياهو القائمة على استعداء الجميع، سواء في معسكر الأعداء أو فريق الحلفاء، وما بينهما من وسطاء.
سياسة الاستعداء التي يتبناها نتنياهو تضع إسرائيل في حرج بالغ، حيث أنها تخسر جراءها الكثير من المكاسب التي تحققت لعقود طويلة من الزمن، سواء على المستوى الإقليمي، في مناطقها الجغرافية، أو حتى فيما يتعلق بمناطق نفوذها في الغرب، وهو ما يعكس طغيان المصلحة الشخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي على إدارته للموقف، خاصة مع مخاوف كبيرة ترتبط بخروجه النهائي من الحياة السياسية، بالإضافة إلى محاكمة نتنياهو بقضايا فساد تورط بها، أو ما يستجد في الجانب الأمني، ارتباطا بأزمة غزة وإدارته لها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة