منطقة غرب أسوان كانت منذ أقدم العصور التاريخية بمثابة الجبانة الرئيسية لحكام وأفراد أسوان والحاضنة الكبرى لأجسادهم، وانطلق المصرى القديم بناظريه إلى الجبل الغربى المقابل لـ"آبو وسونو" ليشق فيه منزله الأبدى مشيدًا فى الفترة من الدولة القديمة وحتى العصرين اليونانى الرومانى ما يعرف بمقابر الحكام والأفراد، وساعده فى ذلك الطبيعة الجيولوجية المكونة من الحجر الرملى المختلط بطبقات من الطفل.
وامتدت هذه المقابر، فى المساحة الممتدة بطول النيل من جبل تنقار جنوبا حتى الكوبانية شمالا وأدت أعمال الكشف الأثرى منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى السنوات الأخيرة الماضية عن اكتشاف العديد من المقابر الصخرية فى جبانات منفصلة تعود لعصور مختلفة آخرها تلك التى تم الكشف عنها بمنطقة الأغاخان التى تعود لنهاية العصر الفرعونى المتأخر وحتى نهاية العصرين اليونانى والرومانى، ويعد اكتشافها اكتمالا للحلقة المفقودة من التسلسل التاريخى للجبانات القديمة بأسوان، ومع ذلك تظل مساحات كبيرة لم تفصح عما بداخلها، وهو ما قد تكشف عنه لاحقًا أعمال الحفائر التى لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا.
وتوصلت الدراسة العلمية التى قام بها الباحث الأثرى أحمد مسعود، كبير مفتشى آثار أبوسمبل - بمنطقة آثار أسوان والنوبة، إلى العديد من النتائج وكشفت عن الكثير من التفاصيل والأسرار التى كانت تحيط بالجبانة المكتشفة حديثًا.
إن طبيعة عمل الباحث كمفتش اثار مصرية بمنطقة آثار أسوان والنوبة، أتاحت له فرصة المشاركة فى الاعمال الميدانية لحفائر الأغا خان فى موسمهما الأول، وبسبب أن أعمال الكشف الأثرى لهذا الموسم لم تحظى بالقدر الكافى من الدراسة العلمية، الأمر الذى دفع الباحث لتناول الموضوع بالدراسة البحثية إستكمالًا للأعمال الميدانية التى جرت بالجبانة. وتعد هذه هى الدراسة العلمية الأولى للجبانة التى تناولها الباحث من خلال بحثه، ویمكن رصد أهم ما تناوله الباحث فى النقاط التالیة:
تقع الجبانة المكتشفة بمنطقة الأغا خان على الضفة الغربية لنهر النيل قبالة جزيرة إلفنتين فى المنطقة الواقعة بين خزان أسوان جنوبا وقبة الهواء شمالًا حيث يحدها من ناحية الجنوب جبل تينجار ووادى بربر ومن الغرب جبل سيدى عثمان ومن الشمال دير الأنبا هدرا الذى يبعد عنها بضع مئات من الأمتار، وتطل الهضبة التى نحتت فيها الجبانة على نهر النيل مباشرة من ناحية الشرق.
أُختير إسم الجبانة من قبل أول فريق عمل أثرى بالموقع فى عام 2015، وسميت بجبانة الأغا خان استنادا إلى قربها من أحد المعالم الأكثر شهرة فى الضفة الغربية لأسوان إلا وهو ضريح الاغا خان لصاحبه "السلطان محمد شاه" أغاخان الثالث الذى دفن فى مقبرة مهيبة بنيت خصيصًا له هناك عام 1959 ويقع الضريح مباشرة إلى الجنوب من الهضبة التى نحتت فيها مقابر الجبانة، ويغطى جزءا من المنطقة الأثرية المحيطة.
وتمتد جبانة الأغاخان على تل صخرى يطل مباشرة على نهر النيل وتتميز الجبانة ببعدها عن المساكن، حيث شيدت المقابر فى منطقة صخرية مرتفعة بعيدة عن منطقتى السكن الرئيسيتين فى هذا الوقت وهما جزيرة ألفنتين التى تتوسط النيل، وسونو (أسوان القديمة) التى تقع على الجانب الشرقى لنهر النيل، ونتيجة لهذه الظروف الطبوغرافية فقد نحتت المقابر فى الحجر الرملى فى عدة مستويات من أسفل الجبل إلى أعلاه بارتفاع يصل إلى 50م تقریبًا، ويبدو أن اختيار موقع الجبانة كان لميزة الموقع المطل على جزيرة ألفنتين ومدينة أسوان، وكذلك لتكوينه الصخرى حيث سهولة نحت المقابر فى الحجر الرملي.
وتشغل جبانة الأغاخان مساحة 20000م2 وتضم ما يقارب 225 مقبرة تم إحصائهم وحصرهم خلال أعمال المسح الأخيرة، تم العمل فى 20 مقبرة منهم بين عامى 2015 و2018 بواسطة فريق عمل مصرى من تفتيش آثار أسوان، ويستكمل فريق مصرى إيطالى أعمال الكشف منذ عام 2019.
وأوضحت دراسة الباحث أهمية الدور التاريخى والحضارى الذى مثله إقليم أسوان عبر عصور مصر التاريخية وخاصة فى العصر الفرعونى المتأخر والعصرين اليونانى الرومانى. إذ أن الموقع الجغرافى لأسوان مباشرة عند منبع الجندل الأول لنهر النيل، الذى مثل الحدود الطبيعية للبلاد، جعل منه موقعًا استراتيجيا ومقرًا للحاميات العسكرية، مثلما كان الوضع عليه منذ نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكيف أن المنطقة باتت تمثل مركزا تجاريا مهما بين مصر وإفريقيا شبه الاستوائية، حيث كان إقليم أسوان بمثابة نقطة الانطلاق للتجارة مع النوبة، انطلق منها المصريون أولا ومن بعدهم الحكام الفرس والبطالمة والرومان فى رحلاتهم لجلب السلع الفاخرة مثل العاج وجلود الحيوانات والذهب والبخور والتوابل عبر الحدود.
وألقت الدراسة الضوء على عمارة مقابر الجبانة وطرز المقابر المكتشفة، وطرق وأساليب وأنماط الدفن المتبعة، ومقارنتها بمقابر تعود لنفس القترة التاريخية سواءًا فى أسوان أو ببعض مقابر الواحات الخارجة والداخلة والتى تشاركت مع كل من إقليم أسوان والنوبة عبر المسارات والطرق الصحراوية التى ربطت بينهم منذ القدم، كما سلط الضوء على دراسة الأثاث الجنائزى واللقى الاثرية التى عثر عليها بمقابر الجبانة.
ومن خلال دراسة الباحث، تمت الإشارة إلى أساليب وطرق وأنماط الدفن المتبعة فى مقابر جبانة الأغاخان، حيث كان التحنيط هو السمة الرئيسية، وتفاوتت جودة التحنيط وطريقة الاعتناء بالجثث من مقبرة لأخرى حيث كانت الجثة تلف بعناية وتغطى أحيانًا بقطع الكارتوناج وأحيانًا أخرى يتم تغطيتها بالقار الأسود أو يتم لفها بالحصير وأربطة الكتان، أما طرق الدفن فتعددت، فكان الدفن فى توابيت أو بدون تابوت وكانت التوابيت توضع على مصطبة أو فى فتحات الدفن أو على أرضية المقبرة، كما تم استخدام الأسرة الجنائزية فى الدفن أيضًا، وهو ما كشفت عنه الحفائر لاحقًا.
وأشار الأثرى أحمد مسعود، خلال الدراسة، إلى أن مقابر جبانة الأغاخان خلت جدرانها من أية نقوش أو كتابات أو تصاوير إذ يبدو أن أصحابها اكتفوا بالمناظر المنفذة على بعض التوابيت واللوحات الخشبية وقطع الكارتوناج، مثلما هو الحال فى جبانات بمناطق أخرى تعود لنفس الحقبة التاريخية.
وتبين من خلال الدراسة أيضًا تعرض بعض مقابر الجبانة فى الماضى لعملية عداء كبيرة، فبجانب أعمال النهب، تم إشعال النار فى بعض المقابر والعمد فى إحراق ما فيها، ويعتقد أن السبب وراء ذلك هو الرغبة فى إعادة استخدام هذه المقابر فى الفترات اللاحقة، مثلما هو الحال فى مقابر الكهنة بالشلال.
وذكرت الدراسة، أن مقابر الأغاخان كانت فى البداية مقابر خاصة لبعض العائلات من الأثرياء، وأن أصحابها كانوا يشغلون مناصب هامة وتقلدوا ألقابًا دينية مثل الكاهن الأول والكاهن المطهر، لكنها تحولت بعد ذلك لمقابر عامة وأعيد استخدامها لاستيعاب عدد كبير من الدفنات اللاحقة، وكشفت الدراسة عن احتمالية استخدام الجبانة للدفن من قبل الجاليات الأجنبية التى تواجدت فى أسوان خلال العصور المتأخرة، إذ أن من بين المومياوات المكدسة بالمقابر المعاد استخدامها، أشخاصًا غير مصريين دفنوا بمقابر الجبانة، حيث عثر على بطاقتين للموتى مدونًا عليهما بالأحرف اليونانية أسماءًا تبدو أنها لأشخاصً غير مصريين.
وأشارت الدراسة إلى أن بعض المومياوات المكتشفة بجبانة الأغاخان مؤخرًا، بدت عليها وجود إصابات عظمية تعرض لها هؤلاء الموتى، تمثلت فى كسور فى العظام وبتر للأطراف، واحتمالية أن هذه الإصابات حدثت نتيجة صراع عسكرى واقتتال عنيف، وبطبيعة الحال هؤلاء قد يكونوا جنودًا أو مشاركين فى عمليات القتال، مما يسلط الضوء على الدور العسكرى الحاسم للمنطقة فى هذه الفترة تحديدًا، ولعل هذا يفسر وجود أعداد كبيرة من الدفنات داخل المقابر المعاد استخدامها.
وكشفت الدراسة أيضًا عن وجود أوجه تشابه عديدة بين مقابر الأغاخان ومقابر كهنة فيلة بالشلال التى تعود للعصر البطلمى، وكذلك بعض مقابر الواحات التى تعود للعصرين اليونانى الرومانى سواءًا فى طرز المقابر أو فى أساليب الدفن المتبعة وحتى فى اللقى الجنائزية المكتشفة.