تبدو السياسة الخارجية المصرية، أحد أهم الأولويات، التي تضعها الحكومة الجديدة، على عاتقها خلال المرحلة الحالية، في ضوء استكمال المسار، الذي بدأته الجمهورية الجديدة، خلال السنوات العشر الماضية، والتي شهدت نهجًا جديدًا، يحمل خروجًا عن الأدبيات النمطية، التي اعتمدتها الدبلوماسية المصرية، على مدار عقود طويلة من الزمن، بحيث تتواكب مع مرحلة جديدة، يبدو على أعتابها النظام العالمي، في ضوء صعود العديد من القوى الدولية الجديدة، باتت مؤهلة إلى حد كبير لمنافسة الولايات المتحدة، وإنهاء حالة الهيمنة الأحادية، والتي سيطرت على العالم منذ التسعينيات من القرن الماضي، في أعقاب نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أبرزها في إدارة علاقتها مع القوى المؤثرة.
ولعل العلاقات المصرية مع القوى الكبرى، قد حملت نهجًا مختلفًا، منذ ميلاد الجمهورية الجديدة، وهو ما بدا في الخروج عن نمط الحليف الواحد، والذي ربما كان مفروضًا بحكم النظام العالمي القائم على الهيمنة الأحادية، نحو حالة من التعددية، ظهرت بجلاء في التحول تعزيز العلاقات مع كل أطراف المعادلة الدولية، وهو ما بدا في تعزيز العلاقة مع روسيا والصين، وهما المنافسان الرئيسيان للولايات المتحدة، بينما احتفظت، في الوقت نفسه، بوتيرة علاقتها مع واشنطن، في حين اتجهت بقوة نحو أوروبا الغربية، عبر تعزيز تعاونها مع القوى الرئيسية في القارة العجوز من جانب، مع إعادة استكشاف بؤر جديدة، تمكنت من خلالها من تعزيز التعاون معها، من خلال العديد من المجالات.
فلو نظرنا إلى خصوم واشنطن، نجد أن التقارب مع روسيا والصين بدا واضحًا خلال السنوات العشرة الأخيرة، وهو الأمر الذي أضفى قدرًا كبيرًا من المناورة للدبلوماسية المصرية، للتعامل مع كل التقلبات، والتي تعد السمة الرئيسية في العلاقات الدولية، جراء أية خلافات محتملة، وهو الأمر الذي بدت أهميته في أعقاب ثورة 30 يونيو، والتي تمكنت من تقويض العديد من المخططات، التي استهدفت المنطقة بأسرها، وهو ما سمح للدولة المصرية تعزيز علاقاتها مع قوى مؤثرة، بينما أرست نهجا جديدا يقوم في الأساس على بناء العلاقات معهم على أساس المصالح المشتركة، بعيدًا عن التبعية، والتي ارتبطت بسياسة الحليف الواحد، التي استمرت لعقود طويلة من الزمن.
العلاقة القوية بين الدولة المصرية، والقوى الصاعدة، لعبت دورًا رئيسيًا في تعزيز سياسة التعددية التي سعت إليها الجمهورية الجديدة، بينما أعادت في اللحظة نفسها هيكلة علاقاتها مع حلفائها التقليديين، سواء الولايات المتحدة أو الغرب، عبر تعميم مبدأ المصلحة المشتركة، عبر تقديم نفسها كشريك موثوق، يمكن الاعتماد عليه، وهو ما بدا في العديد من الأبعاد، انطلقت من الداخل المصري، والذي اعتمدت فيه الدولة مسارين متوازيين، أولهما اقتصادي، عبر برنامج إصلاحي بناء، يمكن من خلاله الاستفادة من كل مقدرات الدولة، والعمل على تعزيزها، وهو الجانب الذي لعب دورًا رئيسيًا في بناء الشراكات مع دول أخرى مؤثرة، منها الشراكة الثلاثية مع اليونان وقبرص، في مجال الغاز الطبيعي، والتي أفضت إلى بناء منتدى غاز شرق المتوسط، والذي ضم في عضويته العديد من الدول الأخرى، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط.
بينما كان المسار الآخر أمنيًا، في إطار الحرب المصرية على الإرهاب، والتي حققت نجاحًا كبيرًا، ساهم في تعميم تجربتها داخل دول أخرى، عبر اعتماد البعد الأمني جنبًا إلى جنب مع أبعاد فكرية وتوعوية، من شأنها دحض الأفكار التي تروجها الجماعات المتطرفة، وهي التجربة التي استلهمتها دولاً أخرى، على غرار فرنسا، والتي تبنت النهج نفسه في مواجهة الجماعات الإرهابية التي سعت إلى تجنيد المئات من الأوروبيين، للقيام بعمليات إرهابية داخل أوروبا.
التحرك المصري لتعزيز علاقاتها بالقوى الكبرى امتد نحو استعادة مكانتها في مناطقها الجغرافية، عبر العودة مجددًا إلى أفريقيا، بعد سنوات من التهميش، لتدافع القاهرة عن مصالح الشركاء في القارة السمراء في العديد من المحافل الدولية، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أبرزها في خلال قمة المناخ التي عقدت في شرم الشيخ عام 2022، بينما كان الموقف الإفريقي الداعم للقضية الفلسطينية، منذ العدوان على غزة، بمثابة مشهد آخر يعكس ما تحمل الدبلوماسية المصرية من تأثير، على المحيط الإفريقي، في ضوء الخطوات التي لم تقتصر على الدعم الخطابي، وإنما امتدت إلى أخرى عملية، أبرزها الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، لوقف إطلاق النار، وإنهاء الاحتلال.
النجاح الكبير الذي حققته الدبلوماسية المصرية خلال السنوات الماضية، في تعزيز علاقاتها مع القوى الكبرى، في إطار تعددي، اتسم بكونه ليس فقط نتيجة مباشرة للجهود المبذولة على النطاقين الدولي والإقليمي، وإنما ارتبط بشكل مباشر بجهود داخلية لعبت دورًا رئيسيًا في تعزيز صورة الدولة، وقدرتها على حشد الجهود، نحو إعادة بناء نفسها، لتنطلق من خلالها نحو تعميم تجربتها في محيطها الجغرافي، من أجل تحقيق الإصلاح، مما ساهم في زيادة الثقة الدولية بها، وبالتالي اعتمادها كشريك موثوق، يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الاستقرار والأمن، ناهيك عن تحقيق طفرة اقتصادية من شأنها تخفيف الاعتماد على الغرب.
وهنا يصبح تعزيز الدبلوماسية المصرية، وتمكينها، أحد أهم أولويات الحكومة المصرية، وعلى رأس أجندتها خلال المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذي لا يقتصر على الدور الذي تلعبه وزارة الخارجية باعتبارها الجهة المنوط بها العمل الدبلوماسي، وإنما يمثل عملا جماعيا تشارك فيه جميع المؤسسات، على أساس نهج يقوم في الأساس على ارتباط السياسة الخارجية في جزء كبير منها على تعزيز الداخل، من خلال مواصلة العملية التنموية وتصديرها في المحيط الإقليمي، والعمل في الوقت نفسه على بناء الشراكات مع العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة