نواصل نشر مذكرات الفنان الكبير نجيب الريحاني الذي توفي في سنة 1949، حسبما نشرتها مجلة الكواكب في عدد يونيو 1952.
مذكرات نجيب الريحاني
منذ 15 عامًا كانت مجلة الاثنين قد فازت بمذكرات فقد الفن المرحوم نجيب الريحاني، فنشرتها تباعًا على قرائها الذين وجدوا فيها صورًا رائعة من حياة الفقيد قدمها بأسلوبه الطريف الذي اشتهر به في مسرحياته.. وقد رأت "الكواكب" في مناسبة الذكرى الثالثة لوفاته، أن تعيد نشر هذه المذكرات.
أحببت الدراما
ولنعد إلى غرامي بالتمثيل .. لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي بل كانت کل هوایتی منصبة على الدراما وحدها . وكم كنت استظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعرى. ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخد يا تمثيل، حتى ضجت والدتي وكاد يهج من البيت أخوتى. ومع ذلك فإنني لم أكن أعبأ بمثل هذه العراقيل، وما دمت أرضي هوایتی، فبعدها الطوفان.
وفى سنة ١٩٠٨ استقال الأستاذ عزيز عيد من عمله في البنك وألف فرقته التمثيلية الأولى مشتركا مع الممثل القديم سليمان الحداد، وقد احتلت هذه الفرقة مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز، وكانت رواياتها تترجم من الفرنسية وكلها من نوع الفود فيل، ولعل القراء الأفاضل لم ينسوا بعد روايات (ضربة مقرعة) و(الابن الخارق للطبيعة) و "عندك حاجة تبلغ عنها"، و "ليلة زفاف" وهذه الأخيرة ترجمها الاديب الكبير إلياس فياض.
وقد كنت بحكم ارتباطي برابطة الزمالة مع الأستاذ عزيز في البنك عضوا في الفرقة، وكانت تسند لي في هذه الروايات أدوار ثانوية صغيرة، ولم يكن هذا ليغيرني لأني - كما قلت - لم أكن اميل لهذا النوع إطلاقا.
وهنا كان إهمالي لعملي في البنك قد بلغ حدا لا يحتمله أحد والشهادة الله، فكم من ساعات بل أيام كنت أتغيبها وكم من ممثلة كانت تقتحم على مكتبي في البنك - وخصوصا منية القلب الست "س".
ولم تجد إدارة البنك إزاء هذه الحالات الصارخة إلا أن تستغنى عن عملي، وأى عمل يا حسرة؟ هو أنا كنت باشتغل.
لم يكن لي مثوى بعد هذا "الرفت" القاطع إلا "قهوة الفن" - - أمام تياترو اسکندر فرح - أو منزل (حبيبة الفؤاد) في غيبة (صديق الطرفين» الأخ على يوسف.
وما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى على بعدها . ذلك أن الفتاة باعتبار ما كان - اتفقت وإیای على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نورا في النافذة ، كان معنى ذلك أن عليا بن يوسف غائب عن البيت، وأن في وسعى أن أزورها، والعكس بالعكس وفي إحدى الليالي تراءى لي أن نورا يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خال وأن السنافور مفتوح، فخلعت حذائی و تأبطته ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقا خفيفا جدا. وإذا الفاتح هو غريمي العزيز على يوسف!!! الذي تناول الحذاء من يدي، و ترکنی أعدو، إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين.
4 جنيهات شهريا
أعود إلى قهوة الفن إياها، فأقول إنني اتخذت منها بعد فصلى من البنك محلا مختارا، وبعد أيام صادفني فيها الأستاذ أمين عطا الله، فعرض على أن أسافر معه إلى الإسكندرية . بدال اللطعة اللي أنا ملطوعها - لأن أخاه الأكبر المرحوم سليم عطا الله ألف فرقة هناك هي محل عطف البلدية التي تساعدها بإعانة مالية، وقبلت بالطبع هذا العرض ولا سيما أن المرتب كان مغريا جدا ... أربعة جنيهات مصرية في الشهر: وهو أول مرتب ذي قيمة تناولته من التمثيل.
كانت فرقة المرحوم سليم عطا الله معتزمة تمثيل رواية (شارلمان الأكبر)، ولما كان العرف يقضى إذ ذاك بأن پسند دور البطولة إلى مدير الفرقة - وهو سليم عطا الله فقد كان نصيبي هو الدور الثاني - وهو دور شارلمان نفسه.
وتهيأت لي الفرصة التي كنت أرقبها من زمن، وهي أن يسند إلى دور في إحدى الدرامات، وفي نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع بين (شارلمان) وبين بطل الرواية (سليم عطا الله) وقد أجهدت نفسى فى أداء هذا المشهد و بذلت قصارى جهدي . فكان لي ما ابتغيت إذ حالفني النجاح بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمني الكثيرون أنني طغيت على البطل نفسه وأغرقته في لجة الإعجاب التي سبحت فيها ظافرا.
وحين أسدل ستار هذا الفصل، هالتي أن جمهرة من الفضلاء والأدباء - وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة - صعدوا إلى المسرح وقابلوا المدير في غرفته وطلبوا استدعائي حيث أجزلوا تهنئتی، ونصحوا المدير بالاحتفاظ بي لأنني سأكون - ممثلا لا يشق لى غبار.
استغناء
وفرحت، لا بل، ظقططت، بعد هذا المديح الذي انهال على من حيث لا أحتسب، وفي صباح اليوم التالي استدعاني الأستاذ سليم مديرنا (رحمه الله) فقلت يا واد جاك الفرج، وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التي سيتحفنى بها وإن كنت أنا شخصيا قانعا بالجنيهات الأربعة التي ربطت لي.
وحبکت أزرار جاکتتی ودخلت على مديري باسما متهللا معللا نفسى بالآمال قائلا في سری "إنه یکفینی أن تكون العلاوة جنيها واحدا و (خليني) لطيف، لان الطمع يقل ما جمع"، وبعد هذا الحوار الظريف بيني أنا نجيب الريحاني وبين نفسي التي هي أمارة بالسوء ، ابتدرني المدير قائلا تلك الجملة المأثورة التي لا يزال صداها يرن في أذني: أنا متأسف جدا یا نجیب أفندى لأن الفرقة استغنت عنك... یا نهار زی الحبر يا أولاد !! استغنت على وهل يعتبر النجاح جرما يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لي الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ إلى السقوط التام والفشل الزؤام؟! نهایته لم أجد فائدة من الأخذ والرد .... فأخذتها من قصيرها وعدت أدراجي إلى القاهرة، وفي قهوة الفن متسع للجميع !! ومن قات قدیمه تاه!
عود إلى الوظيفة
طال بي عهد الخلو من العمل فحفیت قدمای سعيا، حتى كانت سنة ١٩١٠ حيث عثرت على وظيفة في شركة السكر بنجع حمادي فسارعت إلى تسلم عملي هناك مبتعدا عن العاصمة وما فيها من شقاء - تاركا خلقى ذلك الوسط الخبيث، وسط التمثيل الذي أعشقه وأتمناه!! وأظهرت نشاطا في العمل بشركة السكر كان موضع ثناء رؤساني وإعجابهم. وبسم لى الدهر بعد عبوس وحالفني بعد خصام، وظللت أشق طريق المستقبل راضيا مطمئنا ودام الحال على ذلك سبعة أشهر فإذا المثل الخالد: (عند صفو الليالي يحدث الكدر) .... أقول إن هذا المثل تراءى لي شبخه بعد هذه الأشهر السبعة فقوض ما بنيت للمستقبل من قصور الآمال وحملني توا من حال إلى حال . هذا الكدر سببته واقعة ... قاتل الله الشيطان ... واقعة أذكرها هنا من باب التسجيل فقط ... وإن كان الخجل يكسوني كلما طوح بي الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة ، ولكن ما باليد حيلة !! کان باشكاتب الشركة رجلا مسنا اسمه (هم. ت) وكان رحمه الله على نياته وإذا ضربه أحد على خده الايمن أدار له الأيسر، وكان كل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه. وكان مسكني مواجها المسكنة وقد ولدت هذه الجبرة بيننا اتصالا وثيقا.. كانت السيدة حرم (العم. ت) على جانب كبير من الجمال . وكانت في سن تسمح لها بأن تكون ابنة ( للعم ت ) لا زوجة له . كذلك كان الحال ... وإلى هنا تسير المسألة في مجراها الذي معي ترسمه طبيعة كل شيء.